المنبر الحر | كيف أوقعت الرأسمالية الرقمية المجتمع المغربي في فخ الإدمان..
بقلم: زهير أهل الحسين
من أجل تأطير منهجي لظاهرة الإدمان الرقمي في شقه الاقتصادي، نعتمد على المنهج التاريخي في تتبع الظاهرة حتى يتضح لنا بجلاء دهاء الاقتصاد الرقمي في “تبنيج” المجتمع رقميا على مراحل، في غياب اليقظة الاجتماعية والتواطؤ الضمني والصريح مع السياسي الذي يفترض أن يكون عين المجتمع وضميره.
وبشكل أدق، نقدم المعطيات التالية:
1) في بداية الألفية، عملت الشركات الرقمية على طرح منتوج في السوق يدعى الهاتف النقال، فتهافت المستهلك الرقمي على اقتنائه وكأنه فتح جديد في العلاقات الاجتماعية، لكن وراء الأكمة ما وراءها: من أجل الاستفادة من خدماته، عليك أن تقوم بتطعيمه بشكل دائم، سواء عن طريق التعبئة العادية التي تنتهي بسرعة، لاسيما إذا كنت من شعب “الهدرة” حيث الإطناب واجترار الكلام، وإذا أردت أن تتفادى التعبئة، تقدم لك الشركات الرقمية خدمة الانخراط الشهري مقابل الأداء، وهنا تصبح فاتورة أداء الخدمات المقدمة من طرف الهاتف النقال تتجاوز الثمن الذي اشتريته به.
2) عندما لاحظت الشركات الرقمية أن المغاربة أصبحوا يقبلون بشكل كبير على الأنترنيت، وذلك بذهابهم المضطرد إلى “السيبير”، عملت على سحب البساط من تحت أقدام أصحاب هذه المشاريع، وذلك بإدراج الأنترنيت ضمن الخدمات المقدمة، فصارت أغلب المنازل تتوفر على الأنترنيت مقابل الأداء الشهري، ناهيك عن وضع أجهزة لاقطة في سطوح بعض المواطنين عن طريق كرائها مقابل مبلغ يسيل اللعاب، لكنها تصدر ضجيجا مزعجا يقلق راحة السكان، وهنا لا بد أن أشير إلى معلومة مهمة: ظهور مفهوم “الإدمان على الأنترنيت” من طرف الباحثين في علم النفس، كنوع جديد من الإدمان مقارنة مع أصناف الإدمان السابقة مع بيان الفارق، كون المدمن رقميا لا يستهلك مادة مثل النيكوتين أو الهيروين، بل يدمن على الخدمات المقدمة رقميا.. فإذا أصيبت الخدمة الرقمية بعطب تقني، تجد المستهلك في حالة غضب وقلق نفسي جراء انقطاع “الوحي الرقمي”.
3) عندما تم توطين الأنترنيت في جل المنازل، في العالم الحضري كمرحلة أولى ثم بالعالم القروي، قامت الشركات الرقمية بتطوير استراتيجيتها، بطرح هاتف جديد يدعى الهاتف الذكي المزود بالأنترنيت وكأنها تقول للمستهلك الرقمي: “لن ندعك تتنظر حتى تذهب إلى المنزل من أجل الإبحار في الشبكة العنكبوتية، بل سنقرنك بقرينك”، فأصبح أغلبية المستهلكين الرقميين يقضون ساعات طوال في العالم الأزرق على حساب برنامجهم اليومي.
4) استفادت الشركات الرقمية من ظهور شبكات التواصل الاجتماعي، فقام المستهلك الرقمي بتحميلها مجانا (الهدية المسمومة) على أساس التوفر دائما على الأنترنيت، ومن تم الارتباط غير العقلاني بالهاتف حيث الدردشة والفرفشة والقهقهة على فيديوهات التفاهة، مع الاحترام والتقدير لمن له قناة ذات مضمون جيد.
5) التقطت المقاهي بسرعة ما يقع، فصارت تقدم خدمة “الويفي” لزبنائها، الذين أصبحوا يقضون ساعات مبالغ فيها في مشاهدة الهاتف المنقول على حساب التواصل الاجتماعي، فصرنا نلاحظ قطع بشرية متناثرة هنا وهناك، وحّدها الهاتف تقنيا، وفرقها مجتمعيا.
6) استفادت الشركات الرقمية كثيرا من أزمة “كورونا”، حيث تضاعف الإقبال على الخدمات الرقمية، من تعليم عن بعد، وتوصيل خدماتي، وأداء عبر تطبيقات الهاتف، والخدمة عن بعد.. وهنا عمل أنصار التيار “التكنوفيل” على استغلال الظرفية من أجل تمرير خطاب ديماغوجي، بكون الرقمنة ساعدت بشكل كبير في التعايش مع الأزمة، لكن بعد ذلك، اتضح، أي بعد تجاوز الأزمة بقليل، أنها إجراءات استثنائية لا أقل ولا أكثر، فتحول التعليم عن بعد إلى البعد عن التعليم، كما أن المبشرين في شرعنة العمل عن بعد، اصطدموا بغياب السند القانوني الذي يجب أن يؤطره.
7) تعمل الشركات الرقمية على الترويج لمنتوجاتها بـ”تقنية الإشهار” عبر بوابة الإعلام السمعي البصري الذي يبث كبسولات إشهارية يقوم بها فنانين من أجل جذب المستهلك الرقمي، وإذا كان الفنان من حقه أن يقوم بتسويق إشهاري لشركة رقمية، فمن واجبه الأخلاقي أن يقوم بتحسيس معجبيه بمخاطر الإدمان الرقمي، فلا يمكن أن تبكي مع الراعي وتنام مع الذئب وإلا تم توصيفك بأنك تغلب منطق السوق على منطق القيم.
8) تستعمل الشركات الرقمية عبارات تمتح من الثقافة الشعبية، من قبيل “الهمزة الويفي طيارة حيث عدنا أنت الأول.. عيش الحياة”، وهي في الأصل ضحك على الذقون، لأن المستهلك الرقمي بالفعل “همزة” طالما يخرج النقود من جيبه ويضعها في جيب الشركات الرقمية، وقد صدق من قال إن “الرأسمالية هي استغلال الأذكياء للأغبياء”، أي بفضل الغباء الاستهلاكي، خصوصا للطبقة المتوسطة، تحقق الرأسمالية مداخيل مالية فلكية، شأنها شأن الرأسماليين الذين يستثمرون في الخمور والتدخين واليانصيب.
9) استفادت الشركات الرقمية من ضعف الفاعل السياسي في هندسة السياسات العمومية الرقمية، حيث أن أي سياسة عمومية تبنى من تحت وليس من فوق، ومن جهة أخرى، لم يبالِ الفاعل السياسي بتحذيرات الخبراء والبيداغوجيين في التوجه الأهوج نحو الأنترنيت كوسيلة للمعرفة، مثلا في بداية الألفية، عبر جل الأساتذة الجامعيين عن رفضهم للبحوث التي تعتمد على الأنترنيت، لأن المراجع العلمية هي الأصل في المجتمع العلمي، ولم يبال أحد لنداءاتهم، فتطورت الأمور إلى الأسوأ، فصرنا نربط المعرفة بالأنترنيت بغض النظر عن التوجه البيداغوجي.
10) احتضان السياسي للوبي الرقمي، على غرار لوبيات التدخين ولوبيات الخمر ولوبيات اليانصيب، أضفى نوعا من المشروعية الاقتصادية لهذه الشركات الرقمية، لكنها غير مترابطة مع المشروعية الاجتماعية والمشروعية المجتمعية، وهنا نستحضر ما تقوله العامة من تعابير لا تخلو من حكمة: “دارو ليهم فين يتلاهاو”، “هاذ المشقوف خرج على الدراري”، و”واش النهار كامل وانت في التليفون ماعندك شغل تقضيه”.
حاصل القول، استحضار هذا المسار التاريخي لما هو اقتصادي رقمي وعلاقته بما هو مجتمعي، يسهل علينا فهم وقوع المجتمع المغربي في فخ الإدمان الرقمي بطريقة تدريجية دون أن ينتبه للأمر، إلا بعد فوات الأوان، ويبدو أن الأمور ستتعقد أكثر بالترويج للذكاء الاصطناعي و”تشات تجيبتي”، لكن هل يعقل أن 3 شركات رقمية تتحكم في عقلية 40 مليون مغربي؟ أين هو العقل النقدي والذكاء الاجتماعي؟ ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النوم.