المنبر الحر | الهندسة.. تحديد جديد في مفهوم المقاولة المعقدة

بقلم: الحسين بوخرطة
الكل يتابع اليوم الوتيرة والمستوى العاليين لاندماج وتضامن رواد المعارف الهندسية التقنية والتجارية والمالية، فالمقاولة العصرية، خاصة ذات البنية المعقدة، تسعى باستمرار لتقوية التكامل وزيادة فرص النجاح والرفع من مستوى أدائها التجاري إلى أعلى المستويات، والمعرفة الهندسية التقنية التحمت مع المعرفة التجارية والمالية، فلم يعد مستساغا في زمن التكنولوجيات المتطورة الحديث عن الهندسة كمجالات معرفية منعزلة داخل المقاولة، بل برزت منذ مطلع الألفية الثالثة التقائية قوية بين ملاكي الأموال والمعارف والتقنيات فارضة وقعها الكبير على مصادر القرار السياسي في العالم.
كل المنابر الإعلامية تروج اليوم بكل الوسائل المتاحة لما يسمى بمفهوم هندسة المقاولة.. هذه الأخيرة أصبحت عالية الكفاءة في توفير الموارد والمال إلى درجة أصبح تركيزهما يسيرا على المستثمرين، والاهتمام انصب اليوم أكثر على أنماط إدارة وتنفيذ المشاريع من خلال نهج مخططات هندسية شاملة ومتعددة الاختصاصات، وتغطي التفاصيل الكاملة للأنشطة انطلاقا من البلورة مرورا بالتنفيذ ووصولا إلى التقييم المصاحب، حيث تتفاعل المهارات الهندسية في الإنتاج والتسويق والمبيعات وتحليل السوق وإدارة المخاطر وتدبير العقود، فالمهندس، بمجاله التخصصي الذي يتقاسمه مع باقي زملائه وشركائه، يراكم بشكل دائم معلومات جديدة في مجال الخبرة في تقييم توافر الموارد، وتخطيط المشاريع الكبرى، ومواجهة التحديات بفعالية، وتوجيه الفرق الفنية بمردودية ونجاعة كبيرتين، لتتسع لدى الكل المعرفة التقنية والتجارية والفنية، وكذا الكفاءة في تحديد الفرص التجارية في العالم.
مثلا، الهندسة الفلاحية اندمجت مع الهندسة الصناعية بشعبها المتعددة، والمقاولة الهندسية الفلاحية الصناعية تتطلب اليوم معرفة متخصصة تشمل الزراعة والصناعات الفلاحية، بالإضافة إلى الخبرة في الهندسة المدنية والهندسة الزراعية، وبالتالي، يتعين على المقاولين المهندسين أيضا التعامل مع التحديات الفنية والتنظيمية، مثل الالتزام بالمعايير الزراعية والبيئية والصحية والسلامة من المخاطر، لأن التضامن في إنجاز المهام أخضع المبادرات الاستثمارية لمنطق السلسلة، وتبتدئ هذه المبادرات من مرحلة إنجاز البنية التحتية والتجهيزات المتطورة التي تشمل إنشاء الطرق والشبكات الكهربائية والمياه والصرف الصحي، وتأمين التزويد بالمياه اللازمة للري والزراعة، وتوفير البنية التحتية لتخزين وتوزيع المنتجات الفلاحية، وبناء المستودعات والمصانع الزراعية والمناشير والمصانع اللازمة لتحويل المنتجات الزراعية إلى منتجات نهائية، وتجهيز وتركيب وصيانة المعدات الزراعية والصناعية (كالآلات الزراعية، ومعدات التجهيز الغذائي، وآلات ومعدات الصناعات التحويلية والتعبئة والتغليف…)، وتصميم وتنفيذ أنظمة الري الحديثة (مثل الري بالتنقيط والري بالرش والري الموضعي وإنشاء الأحواض وتركيب وصيانة الأنابيب والمعدات اللازمة…)، وتقديم الاستشارات الهندسية للعملاء، بما في ذلك تقييم المشاريع المقترحة وتصميم الحلول الهندسية المناسبة.
أما المختص في مجال الإحصاء والاقتصاد التطبيقي وعلوم الإعلام، فيعتبر بالنسبة للمقاولات الهندسية المعقدة، القلب النابض لمسارها الزمني والجغرافي، فهو يستخدم علم الإحصاء في تحليل البيانات المتعلقة بالمشاريع السابقة والحالية، مما يساعد على توقع النتائج المستقبلية وتقدير الأداء المالي والجدوى الاقتصادية للمشاريع المقبلة، ويستخدم كذلك تقنيات الاحتمالات والتوزيعات الإحصائية لتحليل البيانات وتوقع المخاطر المحتملة، كما يطبق طرق المراقبة الإحصائية لتمحيص جودة المنتوجات، ويسهر على جمع البيانات وتحليلها بشكل دوري للتأكد من أن المشروع يلبي المعايير المطلوبة وأنه لا توجد به عيوب أو انحرافات غير طبيعية.
في نفس الآن، عمل الإحصائي واستنتاجاته هو الأساس المعرفي الميسر لمهام الفريق القيادي المكلف باتخاذ القرارات الاستراتيجية، إذ يستخدم تقنيات الإحصاء في تحليل البيانات المالية والتجارية، والتنبؤ بالاتجاهات المستقبلية وتقدير الاحتمالات والمخاطر المرتبطة بالقرارات المتخذة، ويعتمد النماذج الإحصائية ويحلل البيانات الرقمية التاريخية لتحديد المخاطر المحتملة وتقدير احتمالات وقوعها، مما يساعد في اتخاذ إجراءات ملائمة لإدارة وتقليل حدوثها، يركز يوميا على تعميق البحث في العلاقات بين المتغيرات المختلفة في المقاولة وعلى تحليل التباينات ومناحي انحداراتها وصعودها، بحيث يستنتج بوضوح تام حدة تأثير المتغيرات المختلفة على الأداء والنتائج في المشاريع، وبالتالي، اتخاذ القرارات المناسبة في الأوقات المحددة.
وبناء عليه، الإحصائي يوجد في جوهر الفعل المقاولاتي، يجمع البيانات، يرتبها، ينتقيها، يفهمها، ويحللها بشكل كمي وكيفي، ويستخدم الأدوات والتقنيات العلمية التي تساعد على اتخاذ القرارات المستنيرة وإدارة المخاطر في المقاولة، فهدفه السامي هو الإسهام القوي في تحسين الأداء والكفاءة وربحية المشاريع.
إن التطورات في أشكال وبنيات المقاولات لا تتوقف عند الحديث عن المقاولة الهندسية المعقدة.. هذه الأخيرة تتميز بمستوى عالٍ من التعقيد والتحديات التقنية، وتشمل هذه المشاريع الاستثمارات في البنية التحتية الكبرى، مثل الجسور الضخمة، والأبراج العالية، والمصانع الصناعية الضخمة، ومشاريع الطاقة الكبيرة مثل المحطات النووية والمحطات الكهربائية، وحاجيات البنيات الإنتاجية من هذه الأصناف الجديدة تميل اليوم إلى التعقيد والإبداع المعرفي.. إنها تستند اليوم على تقنيات تحليل هندسي جد متطورة، وعلى أحدث طرق تصميم الهياكل المعقدة، وعلى أنجع منظومات تنسيق الأنظمة والتجهيزات المختلفة.
المقاولة المعقدة المعاصرة لا ولن تطيق الخلل، فالتنسيق اللوجستي بها يجب أن يكون دقيقا وإدارة مشاريعها فعالة، والمقاولون المهندسون يوردون أو يصنعون الآلات والمعدات والجزيئات الإلكترونية الدقيقة، ويقومون بتنسيق الأعمال بين الفرق المختلفة، ويسهرون على بلورة وتنفيذ إدارة الجداول الزمنية والمالية بالدقة المتناهية، ومن تم، فإن كسب رهان المنافسة يجبر العقل المقاولاتي الهندسي على اقتناء أو تطوير أحدث الروبوتات والاعتماد الكلي على التحكم الآلي، الذي يحتكم في مرحلة الإنشاء إلى تقنيات البناء المتقدمة، مثل البناء الجاهز، والإنشاء بالوحدات المعيارية، ففي مجال الإنتاج، أصبح هذا العقل حريصا على ضمان ديمومة تنفيذ إجراءات رصد الجودة ومراقبتها بشكل مستمر، وترسيخ ثقافة التعاون والتنسيق الوثيقين بين الفرق المتعددة والمتخصصة.