المنبر الحر | متى يحين موعد تطبيع الشعوب العربية مع الديمقراطية ؟
بقلم: بنعيسى يوسفي
لست أدري لماذا كلما كان هناك استحقاق انتخابي رئاسي أو تشريعي (برلماني) في الدول الديمقراطية أو حتى السائرة في طريقها، أشاهد تلك الطوابير منتظمة تنتظر دورها في الاقتراع وتدلي بحقها الدستوري بكل حرية وبدون مضايقات وهم متأكدون أن إرادتهم لا يمكن تزويرها أو تعبث بها أيادي العابثين، وترى المتنافسين يقدمون برامجهم ومشاريعهم للرأي العام من أجل إقناعهم للتصويت لصالحهم بطريقة راقية وحضارية، ويكون ذلك مصحوبا بنقاشات سياسية ومناظرات، سواء بين المتنافسين أنفسهم أو بين المحللين وذوي الاختصاص،
وترى كل ذلك يمر في أجواء هادئة وسلمية، حينذاك تتأكد أن البلاد بين أياد آمنة ولا خوف عليها.
في الدول الديمقراطية المتقدمة، لا يهم من انتصر، الأهم هو أن تستمر الدولة في البناء والتطور، وأن يحتكم الجميع إلى الديمقراطية حفاظا على وحدة الدولة وتماسكها، وأن يعيش الفرد فيها متمتعا بكامل حقوقه، فلماذا كلما رأيت كل هذا، تتحرك بداخلي أشياء، وتتقاذفني أسئلة ومخاوف عديدة حول مصير الأمة العربية ومستقبلها السياسي؟ وكيف سيكون مستقبلها السياسي أمام الشعوب والأمم الأخرى؟ لماذا تريد الشعوب العربية أن تكون الاستثناء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟ وما سبب عدائها الدائم وغير المبرر للديمقراطية كآلية للممارسة السياسية الحقيقية؟ متى يطبع العرب مع الديمقراطية؟
أطرح هذه الأسئلة وأنا أستحضر الانتكاسة السياسية التي تعيشها بعض الدول العربية، والحروب الطاحنة التي تدور رحاها بين أهاليها كما هو الحال في السودان واليمن وسوريا وليبيا.. فلماذا كل هذا الاقتتال وإزهاق الأرواح البريئة والحل موجود، وهو الاحتكام إلى الشعب ليقول كلمته؟ لماذا هذا الاستعصاء المفرط في الانتقال إلى الديمقراطية في هذا البلد أو غيره؟ ألم يشهد العرب ثورات الربيع العربي، وقدمت تضحيات من طرف الشعوب، ولم تحصد إلا الريح وعاد الاستبداد وبقوة؟ لماذا دول تحتفل بديمقراطيتها وتجعل من ذلك حدثا تاريخيا مهما كما نرى ويرى العالم اليوم في تركيا القريبة منا في العديد من الأمور؟ لماذا سلكت تركيا هذا المسلك الديمقراطي وتخلف عنه العرب؟ أطرح أيضا هذه الأسئلة وأستحضر حال الانتخابات في المغرب مثلا، أو في بعض الدول العربية، سواء الانتخابات الرئاسية في ذات النظام الرئاسي، أو البرلمانية والجماعية في الأنظمة غير الرئاسية؟ وكيف تتم هذه الانتخابات والأجواء التي تمر فيها؟
ففي الأنظمة الجمهورية العسكرية، يصعب الحديث من حيث المبدأ عن شيء اسمه “السياسة والديمقراطية”، لأنها هي في الأصل أنظمة ديكتاتورية استبدادية تسلطية وقمعية في أحيان كثيرة، والديمقراطية والاستبداد صفتان على طرفي نقيض تماما، ومع ذلك، لا تتورع هذه الأنظمة في تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية وجماعية، وهي عملية متحكم فيه من البداية إلى النهاية ولا يمكن أن تخرج عن الإطار الذي يرسمه النظام من قبل، ولو كانت هذه الأنظمة العسكرية ديمقراطية لما خرج الناس إلى الشارع يطالبون بها، وبالتالي، كل تلك المحاولات التي تقوم بها تلك الأنظمة العسكرية هي ذر للرماد في العيون لا غير.
والأمر لا يكاد يختلف كثيرا في باقي الدول العربية الأخرى، فالصورة تتشابه تقريبا إلا في بعض الاستثناءات، وهناك بعض التجارب السياسية المتقدمة نوعا ما مقارنة مع نظيرتها من نفس المجموعة، ولكن كل ذلك ليس كافيا للقول أنها دول ديمقراطية بكل المفهوم الحقيقي للديمقراطية كما هو معروف دوليا، لأن ثمة معوقات كثيرة تشوش وتشوه الصورة الجنينية للديمقراطية في بعض الدول التي لها نية البناء الديمقراطي لكنها في نفس الوقت تتردد في الحسم في الأمر بشكل نهائي، ولعل من السلوكات التي تسيء لهذه النشأة المتعثرة في بعض البلدان العربية، نذكر انتشار المال الحرام وشراء الذمم بأبخس الأثمان، ناهيك عن المال العام الذي يتم هدره على أحزاب لا تقوم بواجبها الدستوري، ولا يمكن أن تقدم أي إضافة للعملية السياسية برمتها ولا للعملية الديمقراطية بشكل خاص، يتم تبديد كل تلك الأموال بطرق مشبوهة في الولائم وفي حملات انتخابية يقودها في بعض الأحيان مرشحون تنقصهم الخبرة والتكوين السياسيين ويطمحون إلى تسيير شؤون جماعة حضرية أو قروية أو الصعود إلى البرلمان، ويضعون في واجهة هذه الحملات شبابا متهورين مندفعين لا يفقهون شيئا في السياسة ولا في العمل الحزبي، ناهيك عن التزوير الذي يطال النتائج الانتخابية التي تغلب كفة هذا المرشح على ذاك أو هذا الحزب على ذاك، أما طريقة تشكيل المجالس بأنواعها، وانتخاب رؤساء الجهات، فتلك حكاية أخرى، فكل هذه الأمور التي تتكرر مع كل استحقاق انتخابي ولا يتم القطع معها، يعني التأسيس لثقافة سياسية متكاملة الأركان يصعب تجاوزها بسهولة في المستقبل، ويتم التعايش معها، وهذا لا يستقيم والممارسة الديمقراطية الحقيقية التي ننشدها جميعا، وما يزيد الطين بلة وحتى تكتمل هذه الصورة البانورامية للمشهد السياسي خاصة والانتخابي عامة في جل الدول العربية المتخلفة، هو كيف تدار دورات المجالس الجماعية والحضرية والصراعات القوية التي تنشب بين الأغلبية والمعارضة، وكيف تنحرف النقاشات التي من المفروض أن تكون مطالب الساكنة المصوتة وحاجياتها ومتطلباتها حجر الزاوية فيها، إلى نقاشات هامشية شخصية ووضع العصا في العجلة في غياب النزاهة والشفافية ولغة السياسة الراقية، وتبادل السب والشتم، وهم بذلك يسوقون لصورة مشوهة عن العمل السياسي، وبالتالي، العزوف عنها من طرف شرائح واسعة من المواطنين، ونفس الشيء نلاحظه في المؤسسة التشريعية التي يمكن اعتبار ما يحدث فيها صورة مكبرة لما يقع في دورات المجالس.. خطاب سياسي بئيس، نقص حاد في النقاش الرصين والهادف، استصغار لعقول المواطنين، وصراعات وبروباغندا مجانية لا يمكن أن تقدم أي قيمة مضافة للعمل السياسي وللممارسة الديمقراطية.