المنبر الحر | هكذا غابت الصورة النمطية للأسرة

بقلم: عثمان محمود
اعتادت الأسرة أن تظهر في الصور المجسدة لها مجتمعة منسجمة، فعلى مائدة الأكل مثلا، يبدو أفرادها جالسين جنبا إلى جنب والصحن الرئيسي يعلوه أثر بخار متصاعد في إشارة إلى أنه وليد طبخ آني، والأفواه تعلوها البسمات قبل أن تتلقى اللقيمات، في إشارة أخرى إلى هناء النفس وراحة البال.. إلى جانب هاتيك الصورة النمطية، تأتي الصورة الأخرى التي يحظى فيها التلفاز بالحضور، حيث يجلس الأفراد هنا أيضا مجتمعين والعين مثبتة على ما تعرضه الشاشة، فيتنوع تشخيص الانفعالات تبعا لما تعبر عنه الصورة المعروضة، أما تحلق الصغار حول الجدة فتجسده صورة أخرى أكثر تعبيرا عن الانسجام داخل الأسرة، فالأطفال وإن كانوا معنيين مباشرة بالجلوس الفعلي إلى الجدة في تلك الصورة، فإن الأب والأم غالبا ما يبدوان في الخلفية، والجدة في الوسط والأجواء تطبعها الألفة والتواد والمحبة، وحق لقائل أن يقول هكذا كانت أجواء الأسرة في واقع الحال، وكان طبيعيا أن تعبر عنها الصور التي طالما زينت بعض صفحات الكتب المدرسية، أو قصص الأطفال المصورة، أو المسلسلات التلفزيونية الموجهة إليهم، لذلك لا لوم اليوم على الرسومات، ولا المسلسلات إذا غاب عنها ذاك التجسيد الصريح للانسجام والتآلف بين أفراد الأسرة.. فها هو الهاتف الذكي قد استفرد بكل فرد من أفرادها على حدة، حتى ولو رغبنا فرضا في تصويرهم مجتمعين، فإن كل واحد منهم يكون لحظتها يجول في عالمه الخاص، فهذا يجري مكالمة مطولة، وتلك في تواصل متواصل عبر الوسائل المخصصة لهذا الغرض، وأولئك يخوضون غمار ألعاب لا نهاية لها، وها هي مطاعم الأكلات السريعة على وشك الإجهاز على الفترات الحلوة التي كان يجلس فيها أفراد الأسرة مجتمعين أثناء تقديم الأكل خلال الوجبات الرئيسية الثلاثة، فوجبة الإفطار قد تراجعت إلى الوراء عن مائدة الأكل داخل البيت، بعد أن أصبحت المقاهي والمطاعم تتنافس على إعدادها مبكرا لتقديمها للموظفين وهم في الطريق إلى مقرات العمل، والأطفال من جهتهم أضحى الكثير منهم يأخذ معه ما يسد به الرمق، سواء في الطريق إلى المدرسة، أو داخل سيارات النقل الخاصة، أو خلال فترات الاستراحة، أما وجبة الغذاء فالتوقيت المستمر قد أجهز عليها الإجهاز التام، حيث أمسى الموظفون والموظفات يتناولونها في مقرات العمل بعد إعدادها مسبقا في المنازل، أو من خلال خدمة التوصيل التي وجدت لها مكانا في حياة العديد من الناس، ولا أدل على ذلك هذه الدراجات الخاصة بتلك الخدمة التي لا تخطئها العين هذه الأيام، وهي تجوب الأزقة والشوارع في عجلة من أمرها، وفي ظل هذا الإقبال المتزايد على الوجبات السريعة، والخدمات المرتبطة بها، كادت تغيب وجبة العشاء كوجبة رئيسية يتحلق أفراد الأسرة أثناء تناولها مستعرضين ما تم إنجازه خلال اليوم، ومتطلعين لما سيتم القيام به في اليوم الموالي.
خلاصة القول: إن حضور الهاتف الذكي المكثف في حياة كل أفراد الأسرة، والانتشار الواسع للمطاعم المعروفة بإعداد الوجبات السريعة، ساهما بشكل كبير في استفحال إدمانين أحلاهما مر: فالهاتف الذكي من جهته أدخل كل فرد من أفراد الأسرة في عزلة ما بعدها عزلة، والمطاعم المذكورة ساهمت في الإقبال الشره على ما تعده في عين المكان أو عبر خدمة التوصيل إلى المنازل، أو إلى أماكن الشغل، وما يعقب ذلك من منغصات تشكو منها الأبدان، وفي خضم ذلك كله، راحت الأجواء اللطيفة التي كان يوفرها الانسجام داخل الأسرة، وأخذت تتوارى رويدا رويدا، ومعها راحة النفس والبال.