المنبر الحر

المنبر الحر | تركيا أردوغان.. من التفكيك السلمي إلى البناء العلمي والفتح الإسلامي

بقلم: ذ. الحسن العبد

تتميز تركيا أو الأناضول أو وسط آسيا، أو ما يسمى اليوم بالجمهورية التركية القديمة/الحديثة، التي فاز فيها الرئيس رجب طيب أردوغان بولاية رئاسية جديدة كرجل سياسي واقتصادي انطلاقا من خلفية سياسية إسلامية كما يقال عنه، وكشخص ديمقراطي محافظ كما يصف نفسه بنفسه، بتنوع التضاريس وتباين المناظر الطبيعية، أما ثقافيا وسياسيا، فقد تعاقبت عليها الإمبراطوريات عبر التاريخ، وتحدثت عدة لغات، وعاشت فيها أديان وأعراق مختلفة، بحيث يتنوع السكان فيها ويشكل الأتراك النسبة الكبرى منهم، بالإضافة إلى الأقليات الكردية والشركسية والأرمن، كما تجد أعراقا أخرى مثل القوقاز والعرب والفرس والأذريين.

وقد عرفت المنطقة، كما يؤكد المؤرخون، بأسماء عديدة حسب سكانها، فسماها الحيثيون “آسيا الوسطى”، وضموها إلى ملكهم في أواسط القرن الرابع عشر قبل الميلاد، بينما أطلق عليها الإغريق “أناتولي”، وهي كلمة يونانية تعني الأرض التي تشرق منها الشمس، وسماها البيزنطيون “الدولة المسيحية” التي اتخذت من القسطنطينية عاصمة لها -و”أنطوليكون” (الشرقي)، هي الأراضي الواقعة شرق أوروبا – وتعاقب على العيش في الأناضول عدة ممالك وحضارات، منها الإمبراطورية الأكادية، والإمبراطورية الآشورية، والمملكة الحيثية، والمملكة الآشورية الحديثة، والمملكة الحيثية الجديدة، وقد احتلت المملكة اليونانية الأناضول تحت حكم الإسكندر الأكبر والإمبراطورية الرومانية، ثم حكمتها الإمبراطورية العثمانية، ليأتي بعدها دور دولة تركيا العلمانية، وبعدها تركيا الديمقراطية المحافظة مع نظام أردوغان المتنور.

ويرى جل الباحثين اللسانيين، أن شعب الأناضول قد تحدث قديما لغات عديدة ترجع إلى أصول اللغتين الهندية والأوروبية، وتكلموا كذلك اللغات الحيثية واللوية والليدية، وفي أواخر القرن الحادي عشر، بدأ التحدث باللغة التركية، وذلك تحت حكم الإمبراطورية السلجوقية، مرورا بحكم الإمبراطورية العثمانية بين أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن العشرين، ورغم ذلك، وحسب الباحثين اللغويين، فقد بقيت الأقليات في الأناضول تتحدث لغات مختلفة عن التركية، تشمل الكردية والآرامية الجديدة والأرمنية والعربية واللازية والجورجية واليونانية.

تتميز تركيا باقتصادها المنتج المتنوع، لتنوع تضاريسها التي تزينها الأوتاد من الجبال، ووفرة المياه، من أنهار وبحيرات التي غالبا ما تصب في البحر الأسود وبحر مرمرة، كما أن الزراعة بها جد متنوعة، بالإضافة إلى الأشجار الكثيفة المثمرة، مع تواجد عدة ثروات طبيعية ومعدنية، وثروة حيوانية مهمة، ثم إن دولة تركيا تعتمد كذلك على الصناعة بكل أنواعها كقطاع مهم في اقتصادها، وتسهل شبكة المواصلات عدة منافذ للتجارة الداخلية، وكذا للتصدير والاستيراد خارج البلاد، هذا بالإضافة إلى ازدهار القطاع السياحي، وخاصة الثقافي منه، فمنطقة الأناضول، يقول الأركيولوجيون، مليئة بالمعالم الأثرية والتاريخية التي ترجع إلى حضارات وأديان متنوعة سكنت المنطقة على حقب زمنية مختلفة.. كل هذه العوامل الإيجابية ذات المنفعة العامة، وغيرها من المميزات التي تخص دولة تركيا، وتفردها عن غيرها من بلدان المنطقة، سواء في العصر الراهن، أو ما يتعلق بالإرث التاريخي الحضاري، تفسر لنا بوضوح تام ما تشهده هذه الدولة من تقدم مستمر من جهة، ومن جهة ثانية، تعطينا جوابا شافيا كافيا عن القلق الغربي الكبير من فوز الرئيس أردوغان وحزبه العدالة والتنمية، ومعه الشعب التركي بكل مكوناته العرقية والإثنية؟

وقد كان واضحا أن تركيا حققت نقلة عظيمة عبر مشروع دولة وحضارة، وليست مشروع شخص أو بعض الأفراد، ينتهي بنهاية حقبتهم الزمنية أو يزول بزوال تأثيرهم في الحياة السياسية، لقد تغير المسار رويدا رويدا بعد وصول حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم، وتمكنه من مفاصل الدولة، إذ بدا واضحا أن هناك مشروعا حضاريا وميلاد دولة جديدة قيد التشكل، تحدوها الرغبة أن تكون رقما مستقلا في عالم اليوم بكل معاني الاستقلال، لاسيما في قرارها السياسي، وقدراتها العسكرية، ومقدراتها الاقتصادية، وهويتها الاجتماعية”.

فعندما غلّب الشعب التركي الجانب المصلحي على الجانب المنفعي، حاز قصب السبق بحكمة ودهاء، في منطقته، وأصبح من الرواد الذين يضرب بهم المثل وتحتدي بهم الشعوب، مما أهل تركيا لتلعب دورا محوريا، إقليميا ودوليا، على جميع الأصعدة، حيث استطاعت إدارة كل الملفات، وبدون استثناء، بدء بالمؤسسة العسكرية، فاحتوتها، لينتهي عهد الأنياب المكشرة حول سياسة البلاد، الداخلية والخارجية، كما اجتهد رجالات الدولة في الجانب الدبلوماسي، وفي كل الملفات التي تخص السياسة الخارجية بكل علاقاتها الدولية، محاولين تجنب الاصطدامات والصراعات والتجاذبات المغرضة رغم كثرة الدسائس والمكائد والمؤامرات الإقليمية والدولية التي تحاك ضدها.

لقد كان – ولا يزال – صوب عينها مشروع حضاري مجتمعي رائد وواعد في نفس الوقت، وقد تكون هذه المسيرة النمائية التقدمية بأخلاق وقيم نبيلة، هي ما يقلق الغير، شرقا وغربا، ولا يجب أن ننسى أن مفهوم تركيا العلمانية بدأ يتلاشى رويدا رويدا، وفي نظر البعض، فقد أضحى من التراث ليس إلا، بل ميراثا قد يتخلص منه الجيل الجديد من شباب تركيا المتنورة الذين صوتوا لصالح المشروع الأردوغاني المحافظ، وفي نفس الوقت، متفتح على الإيجابيات الحضارية العالمية، المشروع الذي سار فيه رجالات العهد التركي الجديد، وفي مقدمتهم رجب طيب أردوغان، نحو تركيا “الأنموذج”، كما يقول الباحث عصام زيدان، لم يكن في حقيقته مشروعا ثقافيا قائما على تحرير القرار السياسي، وتفكيك دولاب العلمانية العتيق، وإرجاع العسكر إلى حيث مكانهم الطبيعي بعيدا عن السياسة، وإنما كان مشروعا للبناء في مجالات يشد بعضها أزر بعض.. فكان البناء الاقتصادي متناغما مع عمليات التفكيك السابقة، وكان رافعة بالغة الأهمية للمشروع، إذ أن تحرير القرار السياسي، وتخفيف النكهة العلمانية، وتحجيم العسكر، ما كان ليؤتي أكله من دون نهضة اقتصادية يلمسها الشعب ويجني ثمارها، فالشعوب في حقيقتها تُقاد بالاقتصاد والمال، وقلما يعنيها القرار السياسي إلا في انعكاساته المعيشية، والغفلة عن ذلك خطأ بالغ الخطورة أذهب بكثير من مشروعات التحرر إلى هاوية الفناء والعدم، والشهادات ليست ببعيدة تاريخيا وجغرافيا.

هكذا إذن، وبالثقة في قدراتها الذاتية، ومعها إرثها الحضاري مصحوبا بعزيمة وإرادة سياسية فعلية، تمكنت دولة تركيا، قادة وقواعدا، من بناء صرحها الحضاري الجديد دون الاكتراث لأي عامل من العوامل التي تحول دون المضي قدما نحو المجد، ونستطيع القول بأنها انفلتت من الغرب رغم انفتاحها على كل ما يوائم هويتها وحضارتها من ثقافات أجنبية.

النشرة الإخبارية

اشترك الآن للتوصل كل مساء بأهم مقالات اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى