ملف الأسبوع | خطة الحسن الثاني لمحاربة غلاء الأسعار
عندما تدخل الملك لمحاربة تصدير المواد الفلاحية

تطفو على الوضع الداخلي بالمملكة عدة قضايا، لعل أهمها ثلاثة مسائل: أولا: إشكالية محاربة الفساد، وخصوصا في ظل متابعة عدد من النواب ورؤساء الجماعات في قضايا تهم الفساد، وثانيا: هناك حديثا بشكل صريح عن فشل مخطط “المغرب الأخضر”، وضرورة البحث عن نموذج فلاحي جديد يراعى فيه الأمن الغذائي للمغاربة كأولوية عوض الاتجاه نحو تصدير المنتوج الفلاحي وترك السوق الداخلي يعاني من نقص كبير في عدة مواد استراتيجية، ثم ثالثا: مشكلة التضخم وارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل صاروخي.
أعد الملف: سعد الحمري
مباشرة بعد بداية الحملة الجديدة من العزل والاعتقالات في صفوف برلمانيين ورؤساء جماعات بتهم الفساد، بدأ الحديث بقوة عن إمكانية انطلاق حملة تطهير جديدة يقودها وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت، على غرار ما فعله وزير داخلية الملك الراحل الحسن الثاني، إدريس البصري، أواسط تسعينات القرن الماضي.
والحال أن الذاكرة السياسية للمغاربة لا تذكر إلا حملة التطهير التي قادها إدريس البصري بإيعاز من الحسن الثاني، وظلت بعض المبادرات في طي النسيان، لذلك يحاول هذا الملف نفض الغبار عن أول حملة ضد الفساد وارتفاع الأسعار في تاريخ المغرب المستقل، وكانت سنة 1965.. فأي فئة استهدفت هذه الحلمة؟ وما هي الأهداف من ورائها؟ وما هي الحلول والأفكار التي تم اقتراحها من طرف الملك الراحل الحسن الثاني ؟
أحداث 23 مارس 1965 كشفت ما كان يحذر منه الملك الحسن الثاني
حصل المغرب على استقلاله سنة 1956، ولم تكد تمر إلا خمس سنوات حتى أصبح الحسن الثاني ملكا للمغرب، بعد وفاة والده الملك محمد الخامس في شهر فبراير 1961، وقد دشن الملك الجديد مرحلة حكمه بحيوية ونشاط الشباب، حيث أراد أن يكون عند مستوى تطلعات الشباب، وكانت أول خطوة أقدم عليها هي الاستفتاء الشعبي الدستوري، الذي أعطى أول دستور للمملكة أو ما يعرف بدستور 14 دجنبر 1962.
وبالموازاة مع الإصلاحات السياسية التي دشنها، ظهرت لدى الرجل رؤية ثاقبة حول الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية وبرؤية مستقبلية.. فقد ظل الرجل يشخص واقع المغرب الاجتماعي على أن البلاد تعرف نموا ديموغرافيا سريعا، وهو ما تطرق له الحسن الثاني في عدة خطابات، حيث ما فتئ يردد أن البلاد تعرف نموا سريعا جدا بمعدل 350 ألف شخص سنويا، وهو ما يطرح تحديا أمام المغرب على المدى المتوسط والبعيد، حول ضرورة توفير الموارد المالية لبناء مدارس من أجل التمدرس، وكذلك إيجاد حلول من أجل خلق فرص الشغل للشباب.
ولم تكد تمر أربع سنوات على مرحلة حكم الحسن الثاني، حتى ظهرت النتائج الأولية لتحدي النمو الديمغرافي السريع، وبطالة الشباب.. فقد كان المغرب على موعد مع أول أحداث اجتماعية في تاريخه المستقل، وهي أحداث 23 مارس 1965، التي كشفت حقيقة الأوضاع بالبلاد، وأظهرت بالملموس أن النمو الديمغرافي مشكلة حقيقية وجب وضع حدود لها، كما أن مشكلة البطالة ظهر بشكل جلي أنها مشكلة حقيقية.

تناقض ملاحظات الأحزاب السياسية للبرنامج الاقتصادي الذي اقترحه الملك وراء إعلان حالة الاستثناء
كان أول عمل قام به الملك الحسن الثاني بعد أحداث 23 مارس 1965، هو عرض برنامج اقتصادي وطني على مجلس النواب، ودعوة مختلف الأحزاب إلى إبداء رأيها فيه، حيث قال في خطاب له يوم 30 أبريل 1965 بمناسبة افتتاح الدورة الثانية العادية للبرلمان ما يلي: ((بعدما استعرضنا بإمعان المشاكل التي تفتك في عضد الأمة، والعلل التي تحول بينها وبين النمو والرقي، وضعنا طائفة من التوجيهات والمبادئ، التي نعتبرها أساسا صالحا لبرنامج عمل حكومي خليق بأن تلتف حوله الكلمة، وتتحد الصفوف، وعرضناها على رئيسي مجلسي البرلمان، ومختلف الهيئات السياسية والنقابية، وبعض الشخصيات، لتحيطنا علما بما لها من ملاحظات وآراء بشأنها، وقد تسلمنا منها أمس أجوبتها، التي نباشر الآن دراستها وتحليلها، وإننا لنأمل أن تكون تلك الأجوبة معبرة صادق التعبير عن الروح المتتالية التي حدتنا في الماضي، إلى التضحية والفداء، وحفزت هممنا إلى التجرد ونكران الذات، ونبذ الأثرة والأنانية، واجتناب ركوب الشهوات وعدم التسامح)).
وبعد شهرين من عرض هذا البرنامج على مختلف الهيئات السياسية، خاطب الملك الشعب يوم 7 يونيو من نفس السنة، وأطلع من خلاله مختلف شرائح الشعب على ما وصلت له المشاورات، وجاء في خطابه ما يلي: ((.. وقد تقدمت إلينا تلك الأحزاب والمنظمات والشخصيات بأجوبة كتابية درسناها باهتمام بالغ، فتعذر التوفيق بين مطالبها وشروطها المتعارضة، وأتبعنا ذلك بحوار مباشر صالح لم تفض معه محاولاتنا بكل أسف إلى تحقيق الائتلاف الذي توخيناه، وكان من الطبيعي، وقد تعذر تأسيس حكومة ائتلافية، أن يطبق برنامج إنقاذ مع أغلبية برلمانية متماسكة واعية بمسؤولياتها، قادرة على أن تطبع البرلمان بطابع الجدية والإيجابية، وتعين الحكومة على مضاعفة الجهود والإسراع في تحقيق المشاريع التي تنتظر منها أيها الشعب العزيز الخير الكثير، ولكننا لم نجد الأغلبية العددية التي تكون الأداة البرلمانية اللازمة لقيام حكم مستقر، وبدون الائتلاف الوطني وأمام عدم توفر البرلمان على أغلبية)).
ومن هذا المنطلق، وخلال نفس الخطاب، أعلن الملك الراحل الحسن الثاني عن إعلان حالة الاستثناء، ومعنى هذا أنه أصبح بمقتضى الدستور، المسير لشؤون البلاد خلال المرحلة الانتقالية.
عندما أراد الحسن الثاني استغلال حالة الاستثناء للقضاء على الفساد
ولم تكد تمر مدة طويلة على اتخاذ هذا القرار، حتى شرع الملك الحسن الثاني في القيام بإجراءات وقرارات انفرادية هدفها إخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي أصبحت تتخبط فيها.. فبعد سبعة أيام فقط، أعلن الملك عن أولى القرارات في خطاب وجهه للشعب، أعلن من خلاله أنه ستكون بداية سلسلة محادثات صريحة بينه وبين الشعب، حتى يتمكن المغاربة من المراقبة بكيفية مباشرة وبدون زيادة أو نقصان، لنشاط الحكومة والأعمال التي تقوم بها في حالة الاستثناء تحت إشراف عاهل البلاد.
وضمن نفس الخطاب، قال الملك أن المشاكل التي يعاني منها المغرب اليوم، ليست كمشاكل القرون الوسطى، التي كانت تحل بين عشية وضحاها، وأكد أن البرامج التي يريد أن يطبقها ستتطلب تخطيطات وأعمالا طويلة المدى، وقد كان من بين المشاكل التي تتطلب حلولا فورية، هو التسيب داخل الإدارات العمومية، وانحلال الأجهزة الحكومية، وللقضاء على هذه الظاهرة، أطلق العاهل حملة تقوم على القيام بجولات تفتيشية دورية في بعض الوزارات والمصالح المركزية، وبعد يوم واحد على بداية حملات التفتيش، أكد الحسن الثاني أن حافلات نقل الموظفين التي عادة ما تكون فارغة في الساعة الثامنة والربع صباحا، أصبحت مملوءة عن آخرها، كما استعرض مشكلا آخر أصبح يعاني منه المغرب، وهو ارتفاع أسعار المواد الأساسية، مقابل تجميد أجور الموظفين وعدم الزيادة فيها، وهو الأمر الذي دفع الملك إلى أن يقرر شن حرب على ارتفاع الأسعار، حيث صرح بأن البداية يجب أن تكون بتحديد المواد التي يجب أن ترتفع أسعارها، ومنها الأدوية.. فقد ذكر ضمن خطابه ما يلي: ((… ولأنه بلغني – وهذا شيء محقق – أن الأدوية يقع فيها الربح الذي يتراوح بين 60 و70 في المائة، والأدوية قد دخلت البيوت المغربية، فغير معقول أنه إذا كان الشخص الذي يشتري الدواء من مصلحة تابعة للدولة بـ 20 فرنكا إذا قصد الصيدلي اشترى منه نفس الدواء بـ 120 فرنكا أو 130 فرنكا.. كلنا آباء وأبناء، وجميعنا يتعرض أولاده للمرض، وكلنا محتاجون إلى الدواء، ولكن ليس من المعقول كذلك أن يربح عدد قليل من الأشخاص على حساب المغربي والمستهلك العادي ما يزيد على 70 في المائة من الربح.. هناك موادا لا يمكن أن ترتفع، كمواد الاستهلاك الغذائي، وهناك مواد يجب أن تنتج في المغرب من ملابس مثلا، فلا بد من اللباس الشعبي، ولا بد من الحذاء الشعبي، ولا بد من القميص الشعبي، ولا بد من السجائر الشعبية التي توجد في كل بيت وفي متناول كل أسرة، هذه الحرب، حرب الأثمان والاستهلاك والإنتاج، تتطلب منا بعد إشهارها، أن نتجند لها كلنا، ملكا وشعبا وجهازا إداريا، لمدة شهور وسنوات)).
وعليه، أكد ملك البلاد أنه سيعقد مجلسا وزاريا بهدف دراسة طريقة مراقبة الأسعار، كما أعلن عن إحداث مدرسة عليا للتجارة، ثم دعا إلى القيام بثورة في تسيير نفقات ميزانيات الوزارات، بهدف توفير موارد مالية مهمة.

هكذا أعلن الملك الحسن الثاني الحرب على تجار التصدير
لم تتوقف قرارات الملك الحسن الثاني عند هذا الحد، بل عاد في خطاب جديد له يوم فاتح يوليوز 1965، ليعلن في إطار حملة تواصله مع الشعب، عن قرارات جديدة، لعل أهمها كما جاء على لسانه: ((… ولهذا قررت أن نقوم بعمل ثوري بالنسبة لتجارتنا، وهو أن أؤمم جميع صادراتنا إلى الخارج من الحوامض والخضر ومنتوجات الصناعة التقليدية والسمك المصبر، وكما تعلم أيها الشعب العزيز، فإن هذا العمل كان يقوم به بعض الأشخاص أو بعض الشركات، يأتون إلى الفلاح ويشترون منه، وبعد ذلك يبيعون إلى الخارج بوسائلهم الخاصة، وفي بيعهم إلى الخارج يجد المغرب نفسه أمام مشاكل…))
وبخصوص المشكل الأول، أوضح الحسن الثاني أن ((هؤلاء الأشخاص كانوا إذا صرحوا بثمن ما، لا تكون هناك مراقبة كافية أو كفيلة بأن نعرف أنهم باعوا بعشرين أو ثلاثين مليارا مثلا، وبذلك يمكنهم أن يدخروا في الخارج عددا من العملة الأجنبية ويمانعون في دخولها))، أما المشكل الثاني، فهو أن هؤلاء التجار ((كانوا يضعون أنفسهم وجها لوجه مع المنتج دون أن تكون عليهم مراقبة ولا اطلاع، كل ما هنالك أنهم يعقدون مع المنتج عقدة وكفى، ولا يعرف أحدهم هل ما صرحوا به هو الربح الحقيقي أم لا؟)).
وأضاف الملك: ((أخيرا، والأدهى والأمر من ذلك كله، هو أن هذه الشركات كانت تتصرف في الملايير أو في عشرات الملايير من أموال المغاربة، ولم يظهر لها، منذ وجودها، أي عمل تبرهن به على أنها صرفت الأموال الطائلة التي تربحها في مرافق حيوية من الاقتصاد المغربي، إذن، فما هي النتيجة؟ كل ما هنالك هو أن ذلك الوسيط أو المصدر لا يكلف نفسه إلا فتح مكتب واستخدام ضاربة على الآلة الكاتبة وآلة لاسلكية ثم يربح مئات الملايين في السنة، ولم يفكر قط في أن يوظف تلك المئات من الملايين في معمل داخل المغرب أو عمل تجهيزي له، بل كان يحتفظ بأكثرها في بنوك الخارج والباقي يتمتع به بمفرده لا يوزعه نهائيا، لا كأجور ولا كعمل على الطبقات الكادحة التي ترى أن ما بذلته في ذلك من عرق جبينها لا يبذل لصالح الدولة كبناء المدارس مثلا أو تجهيز الأراضي أو القروض، وإنما نرى عددا من الملايير تضيع في أعمال غير منتجة أبدا من الناحية الاجتماعية)).
اقتراح بتحويل أرباح التجارة الخارجية لبناء معامل السكر والسدود
قام الملك ضمن نفس الخطاب باستعراض بعض الأرقام التي كان يكتسبها التجار من التصدير إلى الخارج، وقال: ((… وها هي ذي، أيها الشعب، بعض الأرقام لخيرات بلادك التي كانت تصدر إلى الخارج دون أن تكون أنت المنتفع بها أيها المستهلك الداخلي ولا أنت أيها المنتج، فالحوامض يقدر ما يصدر منها إلى الخارج بثلاثين مليارا من الفرنكات، والخضر بستة عشر مليارا، والصناعة التقليدية بثلاث مليارات، والسمك المصبر بواحد وعشرين مليارا، فيكون المجموع سبعين مليارا، وحسب هذه التقديرات، يمكن لنا أن نربح سنويا من هذه السبعين مليارا 25 في المائة، وبعبارة أوضح، سبعة عشر مليارا)).
وتابع الحسن الثاني حديثه شارحا الخطة التي سيتبعها: ((… وما معنى نطقنا بهذه الملايير؟ معناها هو أنه يمكن أن أقول أن معملا للسكر يقام بثمانية ملايير، وأن خزانا للماء في ناحية سوس يقدر بعشرة ملايير، فمثلا يمكن لنا أن ندخر من هذه السنة إلى سنة 1975، مائة وسبعين مليارا، ويمكن لنا أن نبني عشر خزانات أو عشرين معملا للسكر، وبعبارة أخرى، نأخذ عشرة ملايير وندفع الباقي للفلاحين الصغار، أو إذا وقع فيضان، يمكن لنا أن نقوم بالتجهيز اللازم لبناء خزانات لصيانتها، وكيفما كان الحال، فسنكون نحن المغاربة قد عرفنا كيف نصرف أموالنا وكيف نقتصدها، وسنعرف إذ ذاك أن المال مالنا، ونحن المنتجون والمستهلكون، وإننا نحن الذين نبيع بضاعتنا في الخارج))، وأضاف الملك أن قرار تأميم التجارة الخارجية لا يجب أن يفهم منه أن المغرب قد تحول إلى دولة اشتراكية، واعتبر أن الاشتراكية هي فلسفة إسلامية قبل كل شيء، غير أن هذه المقترحات والأفكار الثورية التي أراد الملك الشاب تطبيقها خلال مرحلة الاستثناء، توقفت في مهدها بفعل عوامل سياسية، ويتعلق الأمر باغتيال الزعيم السياسي الاتحادي المهدي بنبركة في شهر أكتوبر من نفس السنة في باريس، وهي التهمة التي ألصقت بالنظام المغربي، وأدخلته في سنوات من الأزمات السياسية الداخلية والخارجية، الأمر الذي حول حالة الاستثناء من مرحلة أراد لها الملك الراحل الحسن الثاني أن تكون بداية ثورة اقتصادية واجتماعية يسجلها التاريخ باسمه، إلى إحدى أسوء مراحل حكمه، وهي التي أطلق عليها اسم سنوات الجمر والرصاص.