المنبر الحر | مفهوم ثقافة التسامح والمجتمع المنفتح
بقلم: بنعيسى يوسفي
لاشك أن من القيم الإنسانية والاجتماعية الكبيرة التي تنطوي على حمولة ثقافية وسياسية عميقة، هي قيمة “التسامح”، ووجه اختلاف هذه القيمة مع غيرها من القيم الأخرى المعروفة، يكمن في كونها هي وحدها تشكل ثقافة مكتملة البنيان قائمة بذاتها، بمعنى أنها قيمة لا يمكن أن ترى لها وجودا في مجتمع ما إلا إذا توافرت لها العديد من الظروف والمقومات والشروط والأسس، فهي لا تنتعش إلا في بيئة خاصة بها، لأنها تبنى بناء وتكتسب اكتسابا، وما يلفت النظر، أن الكثير من الناس غالبا ما يربطون التسامح بالدين، وتراهم يتحدثون حول “التسامح الديني” هكذا في اختزال وتبسيط كبيرين وواضحين لهذه القيمة التي تتجاوز كل ذلك إلى أمور كثيرة أكثر عمقا وتعقيدا، وأشد غورا للحفر بعيدا في البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية لتأسيس نموذج من العيش أكثر انفتاحا في مجتمع من المجتمعات وإن كان “التسامح الديني” حقيقة يمثل جزء كبيرا من هذه البنية، لكنه يبقى في حدوده القصوى تجليا من تجلياتها، أو يمكن اعتباره وجها آخر من وجوهه المتعددة، ذلك أنه حينما نتحدث عن “التسامح” في بعده القيمي والفكري والسياسي، فإنه لا مندوحة من استحضار جملة من المظاهر والتجليات، بل وحتى بعض المقاييس المضبوطة التي تجعلك تقيس مدى انتشار وتشرب واستمراء هذا المجتمع لها، ومدى احترامه لها حق الاحترام، مع العلم أن درجة “التسامح” قد تختلف من مجتمع لآخر، حسب طبيعة هذا المجتمع أو ذاك، لكن في نفس الوقت لابد من التأكيد أنه يستحيل الحديث عن “التسامح” في بعض المجتمعات مهما حاولت أن تظهر نفسها بهذا المظهر، وهذه المجتمعات هي التي يطلق عليها بـ”المجتمعات المنغلقة”، ولا مراء أن المقصود بهذا النوع من المجتمعات هي تلك التي تبنى فيها السلطة السياسية على أعراق الناس أو جنسياتهم أو دياناتهم أو انتماءاتهم الاجتماعية.. هذا “المجتمع المنغلق” بهذه المعايير لا ريب أن الفرد فيه يكون خاضعا مستسلما لعبادة “الأصنام”، منبهرا بالنموذج السياسي الذي يحكمه والزعامة التقليدية والمستبدة التي تقوده، لا يحق له أن ينتقد وضعا ما ولا يقوى على إبداء رأيه أو حتى ملاحظته حيال قضية من القضايا أو إشكالية من الإشكاليات التي تهم مجتمعه، في مصادرة خطيرة لأبسط حقوقه الأساسية التي لا يمكن للإنسان أن يعيش بدونها، يقول كارل بوبر: “إن أسوأ ما يفعله الإنسان هو الخضوع لمجرى التاريخ والاستسلام لقدره، إذ لا معنى للتاريخ إذا لم يمنحه الإنسان معنى”.
ومن هنا يتضح أن الحديث عن “التسامح” من الصعب أن تجد له أثرا في هكذا مجتمعات، ونحن فقط ذكرنا أمثلة بسيطة وهي غيض من فيض تبين مدى الهوة السحيقة التي تفصل هذه النماذج من المجتمعات عن قيمة “التسامح”، ومنه نستنتج أن “التسامح” لا يمكن أن تجده إلا في نماذج أخرى من المجتمعات، وهي تلك التي يطلق عليها في المقابل “المجتمعات المنفتحة” أو “المفتوحة”، التي تقيم للفرد فيه وزنا وتحترم فكره وتصوره وقناعته كيفما كانت، وتحترم إنسانيته، ويمارس حريته كما يحلو له في إطار القوانين والضوابط الاجتماعية المتعارف عليها، فالمجتمع المنفتح لا يتوخى تغيير طبيعة الإنسان أو توحيد عقول البشر وعقائدهم، وإنما يرغب في بناء مجتمع ديمقراطي مفتوح للتعايش بين جميع الأطياف المكونة له، ويضمن التعددية الفكرية والعقائدية بشكل خاص، ولعل من بين الأسس المهمة التي تنهض عليها قيمة التسامح بالموازاة مع ما تم ذكره، هو تكريس “العقلانية النقدية” في المجتمع، وهذا النوع من “العقلانية” يصعب الاستغناء عنه إذا أردنا أن يكون لهذه القيمة معنى، وهي ليست عبثية، بل تؤطرها منهجية عمل فلسفية وقواعد تجعل منها أرضية متينة للتأسيس لمجتمع أو لثقافة الاختلاف، وهذه المنهجية هي التي يلخصها المفكر كارل بوبر في مبادئ ثلاثة: المبدأ الأول: “قد أكون مخطئا وأنت على صواب”، المبدأ الثاني: “قد نصل إلى تصحيح أخطائنا عبر تفاهمنا حول الأمور بشكل عقلاني”، والمبدأ الثالث: “إذا تفاهمنا على الأمور بشكل عقلاني، قد نقترب جميعا إلى الحقيقة”، إذن، فمفهوم “العقلانية” مبني أساسا على احترام إنسانية الإنسان، وقبوله كما هو لا باعتباره عقلا خالصا أو نزوعا طائشا، وبهذه الطريقة في التعامل، يتم تحويل الكثير من نقاط الضعف في المجتمع إلى نقاط قوة، إذ من الممكن جدا أن يقوده ذلك إلى تجاوز الصراعات المجتمعية الكبرى والمشكلات العويصة المعرقلة للتطور، فقط باستحضار – في تدبيرها – جملة من الآليات والمفاهيم، كالحوار أو التسوية أو التعاقد أو التفاهم والاحترام المتبادل، وهكذا عوض تكريس الأزمات وإعادة إنتاجها، يمكن للعقلانية النقدية أن تلعب دورا مركزيا في قطع دابرها أو التقليص من هولها وفظاعتها على الأقل، وتبقى في الأخير نقطة في غاية الأهمية في بلورة “ثقافة التسامح” في المجتمع ولا بد أن نميط عليها اللثام في هذا المقام، وهي أن يتحرر المجتمع في تعاملاته وفي نقاشاته من “العصمة” التي تعني امتلاك الحقيقة النهائية المطلقة، وينتقل إلى “اللاعصمة” التي تعني أننا كلنا خطاؤون على الدوام، وأنه لا يجوز لأي أحد أن يحتكر الحقيقة، وكل من يدعي غير ذلك، فهو مريض بمرض إنساني يصيب الجماعات التي تتحنط عبر التاريخ وتموت على شكل طوائف لا تسمح بالتعدد والاختلاف، فالوحيد الذي يمتلك الحقيقة المطلقة هو الله دون غيره، والباقي يخطئ تارة ويصيب أخرى، وهكذا ذواليك، وفي هذا السياق يقول الفيلسوف ليسينغ: “لو أخذ الله الحقيقة المطلقة بيمناه، وفي اليسرى البحث عن الحقيقة ومعها الخطأ لزاما، ثم قال لي اختر، لجثوت على ركبتاي ضارعا وقلت يا رب، بل اليسرى، لأن الحقيقة المطلقة لك وحدك”، وهذا هو الفرق بين الحقيقة والبحث عن الحقيقة، والنسبي والمطلق، والبشري والإلهي، ومن بحث عن الحقيقة تواضع وتسامح، ومن ادعا امتلاك الحقيقة تعصب وتشدد.
إن “ثقافة التسامح” لاستنباتها في مجتمع ما، فإن الأمر ليس بتلك السهولة التي يتصورها الكثيرون، لأن المسألة في المقام الأول تستهدف انقلابا جذريا يجب أن يمس طرق تفكير وأنماط من السلوكات ونماذج من الفهم للواقع وللممارسة النسبية تجاه العديد من الأمور (الديمقراطية، العقلانية، الدين) بغية التأسيس لثقافة جديدة لا يمكن أن تخرج في مرتكزاتها الأساسية على جملة من الثوابت والأسس التي ذكرناها.