المنبر الحر | أزمة العقل المعرفي في العالم العربي وصعوبة العبور إلى العقلانية
بقلم: بنعيسى يوسفي
نستطيع أن نقول وبدون أدنى مواربة، أنه في جل الدول العربية والإسلامية، تسود في الوقت الراهن حالة من “اللامعقول”، فتجد أثر ذلك واضحا وجليا في جميع الميادين تقريبا، من السياسي إلى الديني مرورا بما هو اقتصادي أو اجتماعي، بل قد يمتد ذلك إلى مكاتب قطاع من المثقفين بمن فيهم من يقدمون أنفسهم بأنهم “ديمقراطيون وعقلانيون”، ونحن حينما نقول “اللامعقول”، فلأن المقصود به في تعريفه البسيط، هو “الاعتقاد في ما لا يصدقه العقل”، ويصنفه المفكر العربي العفيف الاخضر، إلى نوعين: أدناها “العصاب الجماعي” وأعلاها “الهذيان”، وانطلاقا من هذا التعريف المختزل، الذي يحمل في ثناياه توصيفين اثنين للامعقول، والذي إذا آثرنا أن نبحث عن المصطلح الذي يقابله في اللغة سنجد من دون شك “العقل” أو “العقلانية”، لنصل إلى نتيجة مفادها أن العالم العربي والإسلامي المنغمس اليوم في “اللامعقول”، هو إشارة عميقة تدل على ابتعاده الكلي عن “العقلانية” ومبادئها ومرتكزاتها، التي يبقى من أهمها على الإطلاق: “التفكير النقدي البرهاني” الذي من خصائصه أنه يسأل ويسائل نفسه أيضا، ممارسا نقدا منتظما للتأكيدات والأفكار والنظريات والتصورات، معتبرا إياها مجرد فرضيات قابلة للدحض البرهاني، وليست مسلمات لا تحتاج إلى برهان، مستخدما في ذلك اختزال الأفكار والنظريات إلى مجرد فرضيات مطروحة للنقاش، وظيفة الفكر النقدي هي مساءلة كل ما يقدم نفسه كحقيقة، والحقيقة ذاتها عنده ليست معطى ثابتا، بل سلسلة من الفرضيات التي نجحت في الاختبارات التجريبية التي مرت منها، بل كل فرضية تعدلها فرضية أخرى أحدث منها وأكثر تقدما منها وأوسع في تطبيقاتها من سالفتها، مثلا فيزياء إينشتاين عوضت فيزياء نيوتن، لأنها استوعبت ما هو سديد فيها وأضافت إليها حقولا معرفية أخرى، فلم تكن فيزياء نيوتن تنطبق عليها صفة “البرهاني”، لأنه يعتبر التأكيدات و”الحقائق المطلقة” مجرد فرضيات عليها إثبات شرعيتها العقلانية.
الانطلاق من أن المسلمات المزعومة مجرد نظريات، ضروري لنشاط العقلانية في الحقل الثقافي العربي والإسلامي المليء بالثوابت التي هي في الواقع أوهام ثابتة تستمد شرعيتها من الموروث الثقافي والتاريخي القديم الذي يعتبر في الكثير من جوانبه عائقا كبيرا أمام ترسيخ دعائم العقلانية والتفكير العقلاني في هذه المجتمعات، والتشبث بالخرافات والأساطير، سواء القديمة أو الحديثة، وعدم الانسياق وراء الخطابات السياسية الدوغمائية التي تدغدغ المشاعر، دون نتيجة، والتي تعطي الانطباع بأن العقل في أرض العرب والإسلام في الدرجة صفر، وهذا الوضع غير السليم في اعتقادي، يجب أن لا يكون مثبطا بقدر ما يجب أن يكون حافزا وباعثا لكي يخوض العقل أكثر معاركه شراسة ضد هذا “اللامعقول”، الذي تجذر في البنية الثقافية والاجتماعية العربية والإسلامية، وآن الأوان لمجابهته والقضاء عليه وإن كان الأمر لا يبدو سهلا ولا يسيرا، لكن حسبنا أن نبحث عن بعض الآليات والمداخل القمينة بذلك وننتظر النتائج.
يبدو لي أن أولى هذه الآليات هي إعادة الاعتبار للعقل المعرفي أو الدماغ المعرفي بلغة البيولوجيا، هذا النوع من الدماغ الذي يجب أن يكون أكثر تطورا ومرانا وخبرة، وهو الكفيل بمواجهة باقي أنواع الدماغ التي تسكن جمجمة الإنسان والتي تنتج “اللامعقول”، وهما بالتحديد “الدماغ الغريزي” و”الدماغ الانفعالي”، ومن هنا يبدو لزاما تزويد الدماغ الأول “المعرفي” بالأسلحة المناسبة لتحقيق الهدف المنشود (العقلانية)، وذلك بالتعليم العقلاني وترجمة العلوم، وترجمة الفكر النقدي الذي وصلت إليه الأمم التي سبقتنا إلى ذلك، وخاصة “العقلانية الغربية”، ويجب أن نفهم أن جدلية العقلانية العلمية والتكنولوجية كما تحققت في التاريخ، هي التي أوصلت العديد من الشعوب والأمم إلى ما وصلت إليه، ولا يجوز اعتبار ذلك تقليدا أعمى تحت مسوغات معينة، فلم يسجل التاريخ قط أن مرت أمة إلى مرحلة الإبداع العلمي والتكنولوجي والفكري دون المرور بمرحلة تقليد العلم والتكنولوجيا الغربيين، يجب الاعتراف بذلك، ولا ضير فيه، ولا يجب أن يشكل لنا عقدة، فالعالم الغربي في عصر نهضته اقتفى أثر كل العلوم التي أنتجتها الحضارة الإسلامية وقلدها وطورها، ولم نسمع أحدا منهم ينفي ذلك، فالصين مثلا، ما حققته من تقدم اقتصادي في عقدين لم تحققه بريطانيا في قرنين، بل يمكن القول أن الصين تجاوزت الجميع اليوم، ونفس الشيء بالنسبة للهند و”النمور الآسيوية”، أن التقليد الذي نتحدث عنه ليس تقليدا أبديا، فهذا من طبيعة الحال لن يحل المشكلة ولن يساهم بأي شكل من الأشكال في تنشيط العقل المعرفي والعلمي واشتغاله، بل التقليد الذي نريده هو التقليد المؤقت الذي يشبه الطفل الصغير حين يتعلم من تقليد أبويه أو معلميه قبل أن ينتقل إلى مرحلة الاستقلال عنهما وربما التفوق عليهما، وكما أن الترجمة الجيدة هي فعل مشاركة في إبداع المؤلف، وبالمثل التقليد الحق للفكر والعلم الغربيين، هو في الواقع مشاركة فعالة في الاكتشاف العلمي والتكنولوجي والإبستمولوجي والثقافي، وهذا ليس مجرد تقليد فردي، بل تقليد تقوم به مؤسسات للمؤسسات الغربية العلمية والتكنولوجية والسياسية والثقافية، وكآلية أخرى، لا بد من إعطاء التعليم الأولوية والأهمية التي يستحقها حتى يكون عقلانيا، يعني صياغة برامج ومقررات تخاطب العقل وتغذيه، وتنمي في النشء روح الإبداع والابتكار والنقد، وليس روح الاستهلاك والخضوع التام لقوالب جاهزة، هذا دون أن نغفل تربية هذا النشء على قيم التسامح واحترام الأديان وعدم ازدرائها، وانفتاحه على القيم الإنسانية الكونية بما فيها القيم التي تهم حقوق الإنسان وما إلى ذلك، أضف إلى ذلك وجود إعلام واقعي تعليمي تثقيفي تنويري يسير بخط متواز مع باقي العناصر الأخرى التي ذكرناها خادما وداعما لها، لنخلص في النهاية إلى أن استنبات الفكر العقلاني في مواجهة “اللامعقول” الذي يضرب أطنابه في جل المجتمعات العربية والإسلامية، يمر حتما من الآليات التي ذكرناها.