المنبر الحر | العبث في “حكومة الرقمنة”

بقلم: د. رضوان زهرو
كثيرا ما أسمع، وباستغراب شديد، بعض المسؤولين الحكوميين وهم يتحدثون عن الرقمنة وكأنها الحل السحري لكل القضايا والمشكلات المرتبطة بقطاعاتهم، علما أن هناك قطاعا وزاريا من المفروض أنه عرضاني يهم كل القطاعات، ومن مهامه الأساسية تحقيق الانتقال الرقمي لبلادنا.
فالبطالة حلها في الرقمنة، وتحقيق المساواة ببن الجنسين، التمكين الاقتصادي للمرأة، العنف ضد النساء، زواج القاصرات والنهوض بأوضاع الطفولة والمسنين والمعاقين.. كلها تمر عبر الرقمنة.
وبالنسبة للتضخم وغلاء المعيشة، الحل يجب ألا يبحث عنه بعيدا عن الرقمنة، كما أن تطوير الاقتصاد والرفع من وتيرة الاستثمار وتحسين التنافسية وتجويد مناخ الأعمال، والنهوض بالثقافة وبالفن، إصلاح الصحة، إصلاح الإدارة، إصلاح منظومة العدالة، كل ذلك لن يتم إلا بالرقمنة.
أما إصلاح منظومة التربية والتكوين، وخاصة قطاع التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، فبالنسبة للوزير الوصي على القطاع، فإن الإصلاح المرتقب، الذي يطلق عليه الوزير “المخطط الوطني لتسريع – ولست أدري لماذا التسريع، لأن قطاعا حيويا كالتعليم العالي يتطلب التؤدة وعدم التسرع والارتجالية – تحول منظومة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار من أجل إرساء دينامية جديدة كفيلة بالرفع من جودة ونجاعة منظومة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار وجعلها دعامة لتسريع وتيرة التنمية في بلادنا” (الإصلاح المرتقب بالنسبة إليه) لا يمكن أن يتم إلا عبر الرقمنة ولا شيء آخر غير الرقمنة، حيث ستعتمد الوزارة، حسب توجيهات الوزير إلى رؤساء الجامعات لأجل الدخول الجامعي المقبل، فقط المسالك التي تدور حول تخصص واحد ووحيد: هو الرقمنة، ولا شيء سوى الرقمنة، باعتبارها حسب الوزارة الوصية، إحدى الأولويات الوطنية، فهي مفتاح كل تقدم ورافعة كل نمو وتنمية.
تصوروا عندما تقترح كل المؤسسات الجامعية، على اختلاف حقولها المعرفية، وعبر كل جهات المملكة، نفس المسالك، بقاسم مشترك هو الرقمنة.. ألا يكون هذا هو العبث بعينه وعدم المسؤولية؟
ثم ما هي هذه الأولويات الوطنية التي يتحدثون عنها اليوم، والتي يريد، بل ويلح الوزير، أن نخضع لها كل مسالكنا البيداغوجية دون استثناء؟ من سطر هذه الأولويات؟ من صنفها؟ من صادق عليها؟ أين توجد؟ من يعرفها ويعرف حقيقة أهميتها، اليوم وغدا، ناهيك عن المستقبل؟
هل نرهن تعليمنا العالي كله لقناعة وزير (مجرد وزير عابر وصي مؤقتا على قطاع ذي أهمية حيوية واستراتيجية بالغة) وزير ذاهب لا محالة بعد مدة؟
الرقمنة يا سادة، وسيلة عمل، وآلية مساعدة ليس إلا! فنحن بحاجة إلى أهداف استراتيجية، إلى سياسات عمومية ناجعة، إلى إجراءات تدبيرية عملية وملموسة تنهض حقيقة بالتعليم العالي والبحث العلمي.
ثم ماذا عن باقي التخصصات الأخرى، في الفكر واللغة والآداب والقانون والسياسة والاقتصاد والتدبير والعلوم …؟ وما مصيرها؟
هل ستختفي كلية ليحل محلها الوافد البيداغوجي والعلمي الجديد: الرقمنة؟
إن للجامعة خصوصيتها وأحوالها، ورهاناتها وتحدياتها، وقوانينها وأنظمتها وهياكلها ومؤسساتها وبرامجها ومناهجها، وأي حكومة ناجحة يجب أن تتوفر على برنامج شامل ومتكامل، من خلال التشاركية، وباختيارات وبرامج دقيقة وتوجهات استراتيجية محددة، لذلك، فالأمر يتطلب الكثير من الخبرة والكفاءة والتأهيل، وهو ما أكده، وبصريح العبارة، خطاب ملكي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية التاسعة بتاريخ 11 أكتوبر 2013، حينما اعتبر أن “المجالس الجماعية هي المسؤولة عن تدبير الخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطن كل يوم، أما الحكومة، فتقوم بوضع السياسات العمومية والمخططات القطاعية وتعمل على تطبيقيها”، وجاء خطاب المسيرة لسنة 2016، ليكرس هذا المعنى بكل صراحة ووضوح، عندما أكد جلالة الملك على ضرورة أن تكون الحكومة “مؤهلة في تخصصات قطاعية محددة”، على أساس الكفاءة والتخصص والتأهيل، وليس على أي شيء آخر، وذلك ضمانا لتنمية الدولة وتقدمها واستقرارها واستمرارها.
وانطلاقا من ذلك، يجب على الوزير، أي وزير، أن يملك أولا، الإيمان بنبل الرسالة وثقل المسؤولية بعيدا عن الديماغوجيا والإملاءات الخارجية، والقناعات الفردية، خاصة إذا كانت مؤدلجة، وأن يكون مستعدا في أي وقت من الأوقات لتقديم المصلحة العامة على مصلحته الشخصية، من دون عجرفة أو تعال أو محاولة لفرض الأمر الواقع.. بذلك وحده يستطيع التعامل بكل استقلالية مع التطورات ومسايرة المتغيرات بكل سلاسة، فالوزير ليس منصبا عاديا، هو منصب سامي خطير جدا، له تأثير مباشر على الاقتصاد وعلى المجتمع، بل وعلى الدولة بأكملها، لأن له مهاما وصلاحيات كبيرة واستراتيجية، من قبيل “تنفيذ البرنامج الحكومي، وضمان تنفيذ القوانين”، والإدارة موضوعة تحت تصرفه، كما يمارس “الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية” (الفصل 89).
إذن، دعوة جلالة الملك صريحة كي تتوفر الحكومة، أي حكومة، على كفاءات وطنية حقيقية، بمواصفات دقيقة، ومؤهلات استثنائية، حتى لا نجد أنفسنا كما هو الحال اليوم، أمام حكومة ضعيفة وغير مؤهلة، بوزراء معظمهم غير متخصصين، ولا يتوفرون على الصفات والسمات والمؤهلات الدقيقة والمطلوبة لتقلد مهنة جسيمة وثقيلة وكبيرة، وهي “مهنة وزير”.
إننا بحاجة اليوم، وتجنبا لأخطاء الماضي، وما أكثرها، إلى حكومة قوية وقادرة على الإنجاز، متفاعلة بالسرعة والنجاة المطلوبين، مع انتظارات الناس ومطالبهم وقضاياهم ومشاكلهم.. حكومة لا تختزل الحلول لمشاكل البلاد في رفع الشعارات وتقف عندها من دون معرفة مغزاها، ومن دون اتخاذ أي إجراء ملموس أو رسم أي خطة واضحة في سبيل تحويلها إلى سياسات عمومية وإجراءات وتدابير ملموسة.. حكومة تقول وتفعل، تعد وتنفذ.
إن الحكومة، أي حكومة، هي في الواقع مجرد وسيلة وآلية للعمل، وهي تكليف ومسؤولية، وليست شرفا أو ترفا أو مجدا، وهي قبل كل شيء عبء ثقيل وأمانة عظيمة.