المنبر الحر | شعبوية “حاكم” تونس قيس سعيد
بقلم: محمد حموتي
تكاد أن تكون الظاهرة الشعبوية حالة كونية، إذ لا يخلو أي نقاش سياسي أو عملية انتخابية دون تداولها، بل هناك من يجزم أننا نعيش عهد الشعبوية المعولمة كما تطرق إلى ذلك المفكر المغربي حسن أوريد.
والشعبوية منشأها الأول روسيا وأمريكا في القرن 19، ومع بداية القرن 20 بدأت تتوسع جنوبا في أمريكا اللاتينية وبقية العالم، وهناك العديد من رموزها كخوان بيرونو فاركاس البرازيلي، وهوغو تشافيز في فنزويلا، وانتقلت الظاهرة إلى أوروبا وأصبحت الشعبوية بشكل الانتماء السياسي لمعظم أحزاب الحركات اليمينية وتوسعت كالشبح طارقة أبواب السلطة، بل أصبحت جزء من السلطة، ويعزو العديد من الخبراء الارتفاع الحالي للتيارات الشعبوية إلى الإفراط في العولمة منذ تسعينات القرن الماضي، وإنشاء منظمة التجارة الحرة، وتباطؤ النمو الاقتصادي العالمي والأزمة المالية العالمية لعام 2008، مما نجم عنها تزايد موجات الهجرة العالمية، ولكن إذا كانت الأحزاب والحركات الشعبوية قد تكاثرت في أوروبا وأمريكا، ماذا عن منطقتنا شمال إفريقيا والشرق الأوسط ؟ الرد من خلال ما يحدث في تونس وشعبوية حاكمها.
اسمحوا لي أن أوضح أكثر النهج الشعبوي للرئيس قيس سعيد بعد الثورة التونسية والإطاحة بالمستبد زين العابدين بنعلي وحاشيته، حيث استبشر العديد من المنظرين وكذا المنظمات الدولية، بأن تونس ستتحول نحو الديمقراطية وتقطع مع الماضي وتأسس لدستور جديد صادر عن سلطة تأسيسية بتوافق جميع التيارات السياسية والمدنية عام 2014، غير أن الذي حدث وفاجأ الجميع، هو بروز شخصية أكاديمية، أستاذ في القانون الدستوري قيس سعيد، ظاهرة غامضة ومفاجئة فازت في الانتخابات الرئاسية في تونس وأصبح حاكم قرطاج الجديد، لكن الغريب في الأمر، أن الرئيس قيس سعيد لم يعرف عنه أنه شارك في الثورة أو ساهم من قريب أو من بعيد في معارضة النظام البائد، كما أنه كان خارج السياق السياسي والمؤسسات السياسية، فلم يتقمص في مشواره أي منصب سياسي يجعله يراكم التجربة المهنية السياسية، إلا أن توجهه الشعبوي سيتضح من خلال خطاباته السياسية أثناء الحملات الانتخابية، فلم يكن يحظ ببرنامج اقتصادي واجتماعي واضح ومقنع، بل كل ما كان في جعبته مجرد شعارات لا أكثر (محاربة الفاسدين، الدفاع عن العروبة، قضية فلسطين، حماية السيادة الوطنية، رفض الإملاءات الخارجية، رفض النخبة السياسية الحالية والسيادة الشرعية الدستورية) وهو أشبه بالأسطورة “دون كيشوط”، الذي حارب الطواحين معتقدا أنه يحارب العمالقة.
فقرارات الرئيس التونسي بعد السلطة توضح توجهه الشعبوي، وسأستعين هنا أيضا بالأستاذ حسن أوريد، عندما أبرز أن الشعبوية ستسحب صاحبها نحو السلطوية والاستبداد، وهذا ما يسعى إليه قيس سعيد من خلال مجموعة من القرارات والمراسيم غير الشرعية – حسب العديد من المشرعين – أبرزها تجميد المؤسسات الدستورية كحل البرلمان، وتهميش الأحزاب التي أصابها التشرذم والانقسامات، وإنهاء مهام الحكومة الشرعية، وتدخله في مجال القضاء، وتجميد العمل بدستور الثورة 2014، وأضحت كل السلطات في قبضته من خلال المراسيم، وصاغ دستورا جديدا على مقاس “الحاكم السيادي” حسب المفكر الألماني كارل سميث، وأدخل تونس في دوامة من الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ورغم ذلك، فالحاكم الشعبوي دائما له قناعة بأنه على حق، وهذا ما يحدث مع الرئيس سعيد، فلا يترك مناسبة إلا ويحذر الشعب من وجود مؤامرات وخيانات، مستغلا إخفاق المعارضة بمختلف أطيافها في توحيد صفوفها، أو أن معظم القادة السياسيين وضعوا في السجون.
ديمقراطية تونس أصابها السقم مع مجيء قيس سعيد، المتسم بالمزاجية والتصرفات الغريبة، يدافع عن الشرعية الدستورية وهو الذي خرق الدستور وتجاوز في ممارسة السلطة، ويدعو إلى الحوار الديمقراطي ولا يتحاور إلا مع حاشيته، ويدعو إلى الانتخابات والنتيجة كارثية: الأغلبية المطلقة لم تشارك تعبيرا عن سخطها ورفضها للوضع، دون أن يصدر من طرفه تصرف ديمقراطي كأن يدعو إلى انتخابات رئاسية سابقة لأوانها، بل تصرف بشكل ينم عن أبوية سلطوية، وجعل تونس تعيش عزلة دولية، بل خلق لها أزمات دولية كاحتقاره لذوي البشرة السوداء ودخوله في صدام مع الجارة ليبيا، واستفزازه للمغرب في قضيته الوحدوية باستقباله للمرتزق إبراهيم غالي، وتحديه للمؤسسات المالية الدولية رغم حاجته للقرض، مما جعل العديد من الاقتصاديين يتخوفون من إفلاس الدولة على شاكلة لبنان، ولهذا السبب سمى حسن أوريد الشعبوية بـ”الخطر الدائم”، وذلك عائد إلى أن الشعبوية على مر التاريخ لم يتحقق لها النجاح، فهي ليست إيديولوجية أو تنظيرا، بل هي تصرفات تدغدغ مشاعر العامة، وغوغاء من أجل التحكم بالسلطة.
والرئيس قيس سعيد يعلم جيدا أن نهايته لن تكون سعيدة، لأن الوضع سيتفاقم في تونس، فقد كسب الشرعية السياسية بفضل الشعب الذي انتخبه، إلا أنه لم يكتسب الشرعية الاقتصادية، لأن الوضع لا يبشر بالخير والوضع يتفاقم يوما بعد يوم، وتصرفاته تنذر بأنه يجر تونس إلى أحضان الأنظمة العسكرية الديكتاتورية كالجزائر وسوريا وإيران، لأن كل المؤشرات تؤكد هذا التوجه، بدليل أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في كل خرجاته الإعلامية يقحم تونس في حواراته وكأن تونس ولاية جزائرية ويمن عليها ببركة من الدولارات.
ويبقى الغريب في الأمر، أن الحكام لا يتعلمون من التاريخ ولا يريدون الخير لشعوبهم، ولذلك أكد المفكر الإنجليزي جون لوك، على ضرورة منح الشعوب ذلك الحق المهم، وهو حق التمرد عندما يجد الشعب أن حقوقه الأساسية مهددة باستفراد الحاكم بالسلطة والإخلال بذلك العقد الاجتماعي، ونتمنى كل الخير للشعب التونسي.