المنبر الحر

المنبر الحر | نحو تكريس ثقافة التدبير التشاركي في المؤسسة التربوية

بقلم: بنعيسى يوسفي

    من المفاهيم التي يتم الترويج لها بشكل كبير في الحقل التربوي المغربي منذ مدة ليست باليسيرة، نجد “المقاربة التشاركية”، كما هو الحال مع باقي القطاعات الحكومية الأخرى، حيث بدأ الكل يتحدث عن هذه المقاربة كآلية جديدة في التسيير، تعطي الفرصة لجميع الفاعلين في قطاع ما لتبادل الأفكار والرؤى، واقتراح البدائل والتصورات نظريا أو عمليا، والإنصات المتبادل لإنجاح أي مشروع أو تجربة كيفما كانت، أو المساهمة في التسيير اليومي لقطاع معين أو لمؤسسة أو إ

دارة معينة، أو للوصول إلى حل لمجموعة من العوائق التي تحول دون تحقيق الغايات المسطرة لسياسة أو استراتيجية ما.

تتمة المقال تحت الإعلان

فعلى المستوى النظري والشكلي، تبدو الأمور جيدة، لكن الإشكال يكمن في الممارسة، بمعنى هل يتم الاحتكام إلى هذه المقاربة في صياغة سياسة أو برامج أو توجهات قطاع من القطاعات، أو حتى في حل إشكالية بسيطة من المستويات الدنيا التي تهم المواطن، أم في أحسن الأحوال يتم اللجوء إليها من وقت لآخر لإرضاء الخواطر أو للاستئناس فقط؟

لعل الذي يغفله الكثيرون، هو الاعتقاد أن التأسيس للمقاربة التشاركية في تدبير الشأن العام هو عملية سهلة وميكانيكية أو آلية، وينسون ترسيخها في الممارسة في أي مجال من المجالات، فالمسألة تحتاج إلى وقت طويل، لأن في ترسيخ قيم المقاربة التشاركية محاربة لقيم الاستبداد والبيروقراطية، فللذين سيتسهلون الأمر نقول لهم باختصار شديد، كيف يمكن القضاء أو الحد من الاستبداد أو البيروقراطية في تسيير شؤون هذه البلاد المختلفة التي عمرت ردحا من الزمن، والتي تجذرت في البنية الثقافية والاجتماعية والسياسية والتعليمية وما إلى ذلك، وبجرة قلم، أو بين عشية وضحاها، يقوم مقامها التفكير التشاركي، فنحن هنا أمام ثقافتين مكتملتي الأركان على طرفي نقيض: ثقافة البيروقراطية والاستبداد من جهة، وثقافة التفكير التشاركي أو المقاربة التشاركية من جهة أخرى، لنصل إلى التساؤل: هل بالإمكان القطع مع الممارسة البيروقراطية دفعة واحدة ونقول أنه انطلاقا من اليوم سنغير المشهد، وستذهب هذه البيروقراطية إلى غير رجعة، وسيفتح المجال للمقاربة التشاركية لتسود سيادة مطلقة، أم لا بد من الإزاحة التدريجية لها حتى تتقوى وتتبلور ثقافة المقاربة التشاركية، ليس في ذهنية المسؤول عن أي قطاع وحسب، بل وحتى في ذهنية العنصر البشري الفاعل الذي يشتغل بجانبه والمواطن العادي على حد سواء ؟ 

من نافلة القول، أن الجذور الأولى لـ”المقاربة التشاركية” في تدبير الشأن التربوي تعود إلى الميثاق الوطني للتربية والتكوين، الذي جاء لإصلاح منظومة التربية والتكوين من خلال رؤية تشمل كل قضايا التربية، بما في ذلك إصلاح نظام التدبير التربوي عبر اعتماد اللامركزية واللاتركيز في أفق تقاسم المسؤوليات بين الإدارة المركزية والأكاديميات الجهوية والمديريات الإقليمية والمؤسسات التربوية، وكانت الغاية من كل ذلك، تعبئة كل الطاقات التربوية لإطلاق المبادرات وتحرير القدرات الإبداعية من أجل الرفع من خدمات التربية والتكوين، ويمكن القول أن “التدبير التشاركي” في التربية هو أسلوب يسمح لمختلف الفعاليات بتوظيف إمكانياتهم الإبداعية والخلاقة من خلال إشراكهم في مختلف مراحل صيرورة اتخاذ القرارات المتعلقة بسير مؤسستهم، سواء على مستوى تشخيص الأوضاع والأعطاب، أو تحديد الإشكاليات، واتخاذ القرارات وتقييم النتائج المنتظرة وتقاسم المسؤولية في ذلك، وينهض “التدبير التشاركي” على جملة من المبادئ، نذكر منها: الاعتقاد بأن جودة القرارات ترتفع إذا ارتفع مستوى المشاركة ومستوى كفايات الفاعلين ومستوى التواصل الداخلي والخارجي، الشيء الذي يجعل هذه القرارات تكون أكثر ملاءمة مع حاجيات المؤسسة وتحسين أجواء العمل وتحقيق الانسجام والتماسك بين فريق العمل، ناهيك عن أهمية هذا النمط في إيقاظ التحفيز لدى الفاعلين والاستعداد للتجاوب والالتزام وتحمل المسؤولية من خلال الإحساس بالانتماء إلى المؤسسة عبر الاعتراف بإسهاماتهم ومبادراتهم، الشيء الذي يفضي حتما إلى رفع أداء المؤسسة وتحقيق الجودة المطلوبة، بالإضافة إلى ذلك، تخفي هذه “المقاربة التشاركية” في طياتها الكثير من القيم، حيث تجسد الانفتاح الفكري وترسيخ ثقافة الاختلاف البناء، والرأي والرأي الآخر، والشفافية والثقة المتبادلة وإعطاء قدرات الناس الأهمية التي تستحقها والاعتراف بخبرة الفرد الذي غالبا ما يختزن طاقات إبداعية، فقط ينتظر الفرصة لتحريرها.

تتمة المقال تحت الإعلان

تبذل العديد من المؤسسات التربوية في المغرب مجهودا حثيثا من أجل العمل للانتقال من الأساليب التقليدية في تدبير شؤونها التربوية إلى أسلوب حديث ولو في حدوده الدنيا، يكون فيه التدبير التشاركي المعقلن هو قطب الرحى وحجر الزاوية الذي قد يكون وفق خطة محكمة معززة بدعامات إجرائية، إذا نظرنا إلى هذا الأسلوب نظرة علمية، لكن بالمقابل، لا زالت أخرى مشدودة إلى تقاليد تحبذ مركزية السلطات وعدم تقاسمها، وتؤكد على التراتبية المنغلقة، ولا ترى أي جدوى في الإشراك، كما يصطدم هذا التدبير بمقاومة تنتج عن انجذاب كثير من المسيرين والفرقاء التربويين نحو استمرارية المألوف نتيجة نقص حاد في المعرفة، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنه ليس لديهم ما يقدمونه إزاء هذا التدبير، وهذا ناتج عن غياب التكوين والاعتراف الاجتماعي بالتجديد.

ختاما: إن المقاربة التشاركية في تسيير الشؤون التربوية ورش كبير يحتاج إلى إنضاج شروطه على الوجه المطلوب من قبل الأوصياء على القطاع، وأن يبادر كل الفاعلين التربويين، في أي مؤسسة كانت، لامتلاك ناصية الأدوات العملية لهذه المقاربة حتى تمسي واقعا ملموسا، ولا شك أن الإسراع في ذلك وعدم وضع العراقيل في الطريق، سيغير من الوجه الكالح للعديد من مؤسساتنا التربوية، وسيتم لا محالة اجتراح حلول ناجعة للمشاكل التي تتخبط فيها والتي جعلتها غارقة في التخلف والتقليدانية.

تتمة المقال تحت الإعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى