المنبر الحر | محاولة لفهم المقاربة المعرفية والتدابير الإجرائية لتطبيقها

بقلم: بنعيسى يوسفي
لا يمكن أن يختلف اثنان في كون النظريات الحديثة في مجال التربية والتدريس، وفي مجال الدراسات السيكولوجية عموما، أصبحت تأخذ بعين الاعتبار جملة من المحددات الأساسية في بناء المعرفة واكتسابها، ومن أهمها بالتحديد جعل سيرورة التعلم مشروطة بسيرورة النمو وبمراحلها المتتالية، وهذا ما تنبني عليه بشكل خاص “المقاربة البنيوية”، التي ترتكز على أطروحات جان بياجي، حول النمو الذهني للفرد الذي يساعده في المشاركة بفعالية في بناء معرفة خاصة، فإذا كانت “المقاربة السلوكية” قد جعلت فعل التعلم يتحدد في تغيير قائمة الاستجابات حسب احتمالات التعزيز، وهو ما يصب في المقام الأول، في تعزيز مهارات حسية حركية بشكل كبير على حساب باقي المهارات الأخرى، فإنه في الوقت الراهن ظهرت مقاربة جديدة، تقوم بدمج كل المقاربات السابقة في وقت واحد من أجل بناء التعلمات بشكل أفضل.. إنها “المقاربة المعرفية” التي تستحضر العوامل الفردية والعوامل الخارجية الاجتماعية أثناء اكتساب المعرفة، والرفع من وتيرة التعلم، وتحقيق التعلم الذاتي، وتعلم أساليب ناجعة للتعلم، وتعلم كيفية التفكير السليم وحل المشكلات، فما الذي جعل الاهتمام ينصب حاليا في الحقل التربوي والبيداغوجي على هذه المقاربة الجديدة إلى درجة تجد فيها أصواتا تنادي بتجاوز كل المقاربات السابقة، والاحتكام إلى هذه فقط؟ وما هي القيمة المضافة التي يمكن أن تضيفها للعملية التعليمية التعلمية؟ أسئلة كثيرة يمكن أن يطرحها كل باحث أو مهتم بالعمل التربوي حول هذه المقاربة التي شغلت الكثيرين.
تذهب جل الدراسات والأبحاث التي تعاطت فلسفيا مع هذه المقاربة، إلى أن أهميتها في دراسة اكتساب المعارف تعود إلى ثلاثة أسباب رئيسية: الأول، يتجلى في كون النشاط الذهني للطفل أصبح ينظر إليه كموضوع قابل للبحث، وخاصة على مستوى سيرورته العليا ومظاهر تكونه وآليات تشغيلها في معالجة المعلومات وحل المشاكل وتدبير المعارف، والسبب الثاني، فهو الاقتناع بتوفر الطفل على كفاءات معرفية وميتامعرفية في وقت جد مبكر، تستوجب المعالجة قصد توظيفها بالشكل الملائم، أما الثالث، فإن الكفايات المعرفية والأنشطة الميتامعرفية أصبحت تشكل لبنة أساسية في سيرورة التعلمات واكتساب المعارف وتطويرها، وقد يبدو هذا الكلام غارقا في التنظير والتجريد وتتخلله كلمات فضفاضة تحتاج إلى تدقيق إبستمولوجي، وقد يقول قائل أيضا، بناء على هذا البناء النظري لهذه المقاربة التي فصلنا فيها القول، كيف يمكن أن نستخلص منها الأدوات الإجرائية القابلة للتطبيق على مستوى الفصل الدراسي وعلى المستوى الديداكتيكي؟ سؤال وجيه ومنطقي إلى أبعد الحدود، خاصة إذا استحضرنا أمرا مهما يحصل دائما لجل المدرسين في حياتهم المهنية وغالبا ما لا يجدون له أجوبة شافية من ذوي الاختصاص للأسف الشديد، والذي يبدو أنهم هم أنفسهم بينهم وبين ذلك بون شاسع، وهذا الأمر يتمثل في صعوبة أجرأة المقاربات البيداغوجية في سيرورة التعلمات التي تجعل في بعض الأحيان هذه المقاربات في وادي والممارسة الديداكتيكية في واد آخر، فهذا هو جوهر الإشكال، أو على الأقل التوفيق بينها وبين الواقع، الشيء الذي يدفع الكثير من المدرسين إلى الاجتهاد جهد الإمكان للخروج من عنق الزجاجة، وجعل عملية بناء التعلمات تمر بسلاسة.
وارتباطا بهذا السؤال، أقول أن كل مقاربة من مقاربات التعلم تحمل في تجاويفها وبين ثناياها ما يجعلها قابلة للتطبيق والتنفيذ والأجرأة، يبقى فقط البحث عن المداخل والمفاتيح المفضية إلى ذلك، وذلك بالبحث عن “الاستراتيجيات التعلمية” التي تختزنها والتي يظهر أنها قابلة للاستخلاص والاستثمار.
وبالعودة مثلا إلى موضوع “المقاربة المعرفية”، فقراءة أولية في نسقها النظري وأساسها الإبستمولوجي وفي تصوراتها ومرتكزاتها، تجعلك تقف على بعض الاستراتيجيات المساعدة على التعلم، وذلك باعتبار أن “الاستراتيجية أولا، هي حلقة متكاملة تقريبا طويلة ومعقدة من الإجراءات المنتقاة لتحقيق هدف من أجل جعل الأداء أفضل”، فهي تعتبر سيرورة لتحسين الأداءات، وبشكل عام “الاستراتيجية” هي مجموع العمليات التي يبرمجها المتعلم طبقا لمكتسباته السابقة، وذلك قصد الوصول إلى هدف معرفي معين داخل وضعية تربوية متميزة، وهكذا تمدنا “المقاربة المعرفية” بمجموعة من الاستراتيجيات التي تساعد في توجيه المتعلم إلى عملية التذكر وتطبيق عمليات ذهنية مختلفة، وذلك بإعطائه جملة من الإجراءات الكفيلة بتحقيق التعلم الذاتي، ومن هذا المنطلق، يتبين أن الاستراتيجيات المعرفية هي عبارة عن قدرات داخلية وفردية قد تؤخذ كمؤشر للدلالة على الفروق الفردية القائمة بين التلاميذ، ومن بين هذه الإجراءات، نذكر بالأساس، تمهير المتعلم على ملاءمة مكتسباته السابقة على المستوى المعرفي والذهني لحل مشكلة تعلمية معينة، وهذا الإجراء حقيقة يختلف من وضعية مشكلة إلى أخرى ومن مادة إلى أخرى، حسب المطلوب، لكن في المجمل، يمكن أن نختزل أهم الثوابت التي تجعل الفرد/المتعلم قادرا على انتقاء الإجراء الأكثر ملاءمة وذا فعالية في سياق سيرورة تعلمية معينة: أولا، بتقدير الفرد لقدراته ومعارفه، وأنه لا يتطلب منه ذلك سوى القليل من الجهد لتحسين أدائه، وثانيا، كون المهمة تتطلب الاستعمال الجيد لإجراءات نوعية، ثم مراعاة العوامل المتحكمة في استعمال الإجراء، وهي عوامل: ذاتية تتعلق بسمات الشخصية كالانفعالات وتقدير الذات والاتجاهات، وموضوعية، تتعلق بطبيعة المضامين والمهام المتطلب إنجازها.
لا نزعم أننا في هذا المقام قد أحطنا بكل جوانب موضوع الدراسة “المقاربة المعرفية”، لكن حسبنا أننا ركزنا على ما هو أهم فيها، فالموضوع فيه تفصيلات كثيرة تحتاج إلى نقاش كبير ومحاولات كثيرة للفهم والإدراك حتى يتسنى لنا فعل التطبيق والأجرأة في الميدان، فكل المقاربات البيداغوجية تبقى جوفاء وعقيمة إن لم تجد سبيلها للتطبيق ولو في حدها الأدنى.