المنبر الحر

المنبر الحر | الأسباب الحقيقية والخفية لتجميد العمل ببيداغوجية الإدماج في المدرسة المغربية

بقلم: بنعيسى يوسفي 

    تعتبر “بيداغوجية الإدماج” من البيداغوجيات التي أسالت الكثير من المداد من طرف العديد من المهتمين والباحثين التربويين من جهة، ورجال التعليم من جهة أخرى، وقد أحدثت حقيقة هذه البيداغوجية – التي لم يعد أحد اليوم يتحدث عنها – رجة كبيرة في الحقل التربوي والبيداغوجي المغربي دون سابق إنذار، ولا زال الكل يتذكر السياق الزمني الذي جاءت فيه والهالة التي كانت محاطة بها، وكان الاعتقاد السائد، الذي أريد له أن يكون حقيقة مطلقة، هو أننا بهذه البيداغوجية سنحقق تعليما راقيا وسنصل إلى مستوى كبيرا سيجعلنا نضاهي نظما تعليمية جد متقدمة، وفي ظرف وجيز، انطفأت جذوة هذا الحماس وحصل فتور في الممارسة والنقاش فقدت معه هذه البيداغوجية زخمها وألقها وأصبحت أثرا بعد عين، وتم التراجع عنها دون أن تكلف الجهات المعنية نفسها عناء إجراء تقييم موضوعي، ليس في فشل تطبيقها وحسب، ولكن في تحديد المسؤوليات والأسباب الحقيقية التي أفضت إلى التراجع عنها، في ظل تلك الميزانية المهولة التي صرفت على استيرادها، والأموال الطائلة التي خصصت لأجرأتها على أرض الواقع، سواء التي ذهبت إلى جيب منظر هذه البيداغوجية، البلجيكي كزافيي روجرز، الذي قيل أنه حصل على مبالغ خيالية من وراء توطين نظريته أو بيداغوجيته هذه في المغرب، أو تلك التي صرفت في فترات التكوين التي خضع لها رجال ونساء التعليم لمعرفة أسس هذه البيداغوجية وأشكال أجرأتها والتدريس بها، لنعيد معه طرح سؤال التجريب في المغرب الذي أمسى مرجعا في تجريب كل شيء دون دراسة علمية دقيقة تفرز الغث من السمين والصالح من الطالح، ففور إعلان خبر الإلغاء، لا أحد تساءل عن مصير كل هذه الأموال التي رصدت لهذه البيداغوجية، وطرق صرفها، والتي يبدو أنها انضافت إلى أموال المخطط الاستعجالي، التي ذهبت أدراج الرياح دون حسيب ولا رقيب..

في الواقع، وبغض النظر عما سبق ذكره من اختلالات وفشل، اللذين صاحبا تطبيق هذه البيداغوجية، إلا أنه من الناحية العملية والعلمية ثبت أن هذه المقاربة كإطار منهجي على الأقل لتطبيق بيداغوجيا الكفايات، تتصف بالمرونة وتتيح إمكانية الإبداع، وتفتح باب الاجتهاد في كل مراحلها الأساسية، سواء تعلق الأمر بمرحلة استكشاف وتحديد الكفايات المستهدفة، أو تملك تلك الكفايات وإدماجها والتدريب عليها أو تحويلها أو إغناءها قصد مواجهة مختلف السياقات والوضعيات المشكلة التي قد يصادفها التلاميذ في حياتهم التعليمية أو الاجتماعية بكل ما يتطلبه الأمر من فعالية في إنجاز المهام وأداء الأدوار بغية إعطاء المعنى والوظيفة لمختلف التعلمات، لكن رغم كل هذه الإيجابيات التي تنطوي عليها هذه البيداغوجية وهذه المرونة وإن كانت لم تقنع الكثير من المهتمين والفاعلين التربويين بشكل عام، بحكم الصرامة الديداكتيكية التي تحفها من كل جانب وجعل العملية التعليمية التعلمية تشتغل بشكل ميكانيكي أو آلي، فقد عمدت الجهات المختصة والوصية، على تجميد العمل بهذه البيداغوجية وترك المجال مفتوحا للمدرسين باعتماد الطرائق البيداغوجية التي يفضلونها، من منطلق أن الحرية والإبداع هما القاعدتان الأساسيتان في التعاطي مع الشأن البيداغوجي وكل تقييد أو تنميط للممارسة البيداغوجية هو مصادرة لحق التلميذ في النماء والتطور بوتيرته وإيقاعه الخاص، وعليه فالمبدأ الذي يجب أن يراعى في كل البيداغوجيات، هو الابتعاد عن الوصفات الجاهزة والحرص على التوظيف المبدع والمنسجم لكل إيجابيات الطرائق البيداغوجية بما يستجيب للفوارق الفردية للمتعلمين، ويحقق لهم الارتياح والمتعة في اكتساب التعلمات والمعارف .

من نافلة القول أن المشكل في النهاية ليس في هذه البيداغوجية أو غيرها، لأنها وسائل وليست غايات، وإنما الإشكال الحقيقي يتعلق بكيفيات التنزيل ومنهجية الإرساء والشروط الذاتية والموضوعية الكفيلة بدعم واحتضان أي مقاربة جديدة، ولا يمكن تصور أي إصلاح تربوي مستقبلي يمكن أن يتغاضى عن تحديد الملامح العامة للنموذج البيداغوجي القادر على تأطير وتوجيه الممارسة البيداغوجية بشكل متبصر ومنسجم مع منطق العصر المتسم بكثرة التحولات على مختلف الصعد، وبغض النظر عن أي مقاربة متبناة ضمن النموذج المأمول، والتي يجب تحديد إطارها المنهجي العام في أفق تعميمه وطنيا دون الانشغال بالجزئيات والتفاصيل التي قد تحدث للمدرس ارتباكا وتفقده حس التجديد والإبداع، ومن هنا يظهر أن المردود المدرسي لا تتحكم فيه فقط المقاربات البيداغوجية مهما كانت وجاهتها وعلميتها، لأن هناك متغيرات أخرى متعلقة بالنسق التعليمي والاجتماعي العام قد تكون حاسمة في النجاح المدرسي، سواء تلك المرتبطة بالمعلم أو المتعلم أو الظروف التي تجرى فيها العملية التعليمية أو الشروط السياسية والسوسيوثقافية والاقتصادية الداعمة والمحتضنة للفعل التربوي، وهذه هي أهم المعطيات التي يجب دائما استحضارها في سيرورة التعلمات وبنائها، وجعلها تنصهر انصهارا في القالب البيداغوجي والديداكتيكي الذي يتم التدريس به.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى