المنبر الحر | شروط النهضة والحداثة العربية عند المفكر هشام جعيط

بقلم: بنعيسى يوسفي
لاشك أنه حينما يدور الحديث عن كيفية إنضاح شروط التقدم عند العرب والمسلمين انطلاقا من رحم التاريخ والتراث، وكيف يمكن أن نجعل من التراث حافزا وباعثا على التطور بدل الانكفاء والجمود، ينصرف إلى الأذهان مباشرة ثلة من المفكرين العظام، سواء في المشرق أو في المغرب، والذين تعاطوا مع هذه المعضلة تعاطيا يكاد يكون مهيمنا على مسارهم الفكري برمته،نذكر منهم محمد عابد الجابري،عبد المجيد الشرفي،حسن حنفي،محمد أركون،محمد الطالبي، وآخرين، ولكن في نفس الوقت نجد تغافلا أوتغاضيا أو قلة اهتمام عن قصد أوغير قصد عن قامات فكرية لا تقل أهمية عن هذه الأسماء،بل قد تتفوق عليها في العديد من الأمور التي تتعلق بالتراث والتاريخ وطريقة ومنهجية اشتغالها عليه وقراءته، وليس هذا فحسب، بل قد تختلف عنهم أيضا في طريقة نقدها المعرفة والموروث الثقافي الغربي، كل ذلك من أجل الوصول إلى الوصفة أو الوصفات القمينة لتحقيق نهضة أو إقلاع عربي طال انتظاره على جميع المستويات، ومن بين هذه القامات نذكر بشكل خاص، المؤرخ الكبير التونسي هشام جعيط، هذا المفكر الذي أصبح هو نفسه بفعل غزارة إنتاجه وعطائه ومسار فكره الطويل، مادة للدراسة والنقد والبحث والتحليل عند الكثيرين، فتم تأسيس فكر مواز لفكره وإنتاجاته كما هو الحال عند من هم من شاكلته وطينته من المفكرين العظام الآخرين،الذين يسبحون في نفس الفلك تقريبا.
ويمكن اعتبار هشام جعيط أحد المفكرين القلائل الذين اعتنوا بإعادة قراءة التاريخ والتراث العربيين الإسلاميين قراءة تقدمية متحررة من كل المواضعات والمنهجيات التي تواضع عليها العرب على امتداد قرون طويلة، ويثور ضدها وينتصر لقيم الحداثة انتصارا لا يضاهيه إلا إيمانه وتشبثه القوي بالحياة والرغبة في الانعتاق من الجمود الجاثم بثقله على العقول والصدور،وإذا أردنا أن نلخص أهم أسس المشروع الفكري عند الرجل، فيمكن تصورها على ثلاثة أوجه: داعيا للنهضة والحداثة، ناقداللمعرفة الغربية،والمؤرخ، الذي يشكل الوجه الأبرز في فكره، فالتفكير في الوجه الأول ورث قيمها ومبادئها عن “أسلافه القريبين والبعيدين” حسب تعبير عبد الإله بلقزيز، كما تشربها عن طريق الاحتكاك مع مجايليه أمثال عبدالله العروي وعلي أومليل وميشيل عفلق وصادق جلال العظم، وغيرهم لا يتسع المجال لذكرهم، أما الوجه الثاني، فتعاطى معه المفكر من منطلق سؤال “الأنا والآخر” بطريقة تختلف عن المألوف في فكر ومؤلفات من اشتغلوا على هذه التيمة، خاصة في كتابه: “أوروبا والإسلام”، إذ حرص هشام جعيطعلى تحليل صورة الإسلام في متخيل الآخر في تاريخيتها، وبالنسبةللوجه الثالث،فهو ذاك المحبب إلى قلبه:التاريخ،ولعل ما يميز المفكر في هذا المجال،هو تنقيبه الدقيق في المصادر التاريخيةكما فعل في كتابه “الفتنة”،وكذا في كتابه “الكوفة..ميلاد المدينة الإسلامية”،الذي يعتبر مختلفا عن باقي الدراسات الأخرى التي أنجزها مؤرخون آخرون في نفس الموضوع.
وتنطلق شروط الإصلاح أو النهضة عند هشام جعيط،في صياغة رؤية جديدة للعلمانيةفي العالم العربي ومحاولة إعطائها فهما جديدا وتأويلا مغايرا مخالفا تماما لما هو رائج وسائد، إذ يدعو إلى إطلاق حركتها في حقل الضمير والمجتمع والدين والدولة والأخلاق،باستحضار تام للطبيعة المعقدة للمؤسسات والبنيات القائمة في المجتمع،وما يصاحب ذلك من مراجعات تقييمية لاجتهادات الفقهاء وعلماء الدين المسلمين،الذين مارسوا تأويلا للنصوص الدينية يبدو أنها في حاجة إلى تجديد وأكثر جرأة لتساير العصر وتطوراته،وذلك بتطوير وجوده، أيالدين، باستعمال التفكير الفلسفي والنقد التاريخيحتى لا يكون الإيمان في تصوره محصلة جهل وجمود،بل محصلة ذهنية تتفاعل مع الحداثة وتتعاطى مع مقتضياتها من دون الاستكانة أو الاطمئنان إلى مسلمات إيمانية،فهذا المفكر لا ينفي البتة كل المكتسبات التي قدمها الدين للبشرية،كما يشدد دائما على أن يبقى الإسلام هو دين الدولة،لكن في ذات الوقت يدعو إلى تجاوز بعض الاجتهادات التي أمست تقيد الإنسان أكثر مما تساعده على الحرية والتقدم،هذه المطالبات التي تستقر في قلب مشروعه الفكريمازالت من دونها عوائق كثيرة، إذ بقيت حركة التحديث مجرد محاولة فاشلة لتكييف المؤسسات التشريعية الإسلامية مع العالم الحديث،ومن تم انحبس الوعي الإصلاحي في أطر مفاهيمية هي قريبة إلى مقولات اقتصادية وسياسية منها إلى شيء آخر،ومن زاوية أخرى، يركز هشام جعيطفي شروط النهضة والحداثة في العالم العربي والإسلامي،على مسألتين في غاية الأهمية: “الوحدة العربية”، التي تعتبر بالنسبة إليه مطلبا ضروريا وملحا لأسباب ترتبط بالسياسة والاقتصاد والثقافة،وعلى ضرورة بزوغ”إنسان عربي جديد”من رحم تهذيب العقليات وتربيتها وتغيير المؤسسات،أما الثانية،فتتعلق باقتراح نموذج للتنمية الاجتماعية تشترك فيه الدولة والطبقة البورجوازية لبناء صرح اقتصادي تعود منافعه على الإنسان العربي عامة .
تلكم إذن، بعض ملامح ومداميك المشروع الفكري للمفكر التونسي الكبير هشام جعيط،وبعض الشروط الأساسية التي يرى توافرها ضروريا في المجتمعات العربية في سبيل تحقيق التقدم والتطور المنشودين،وكل الأفكار التي كتبها هذا المفكر ودافع عنها باستماتة،وناضل من أجلها طوال حياته، فهي تبقى من منظور النقاش العلمي الرصين آراء واجتهادات شخصية،تلزم صاحبها أولا وقبل كل شيء، وتحمل جرعات كبيرة من النسبية، كما أنهليس بالضرورة أن نتفق معه جملة وتفصيلا،وليس في المقابل أن نرفضها جملة وتفصيلا، إلا أنه من المندوب على المهتم والباحث والقارئ،حتى لا نقول من الواجب، أن يطلع على أفكار المفكرين والفلاسفة والعلماء العرب، وأن يدرسها، عله يستخلص منها ما قد يساهم به قدر الإمكان في حلحلة الأزمة الجاثمة على صدور الجميع على كافة الأصعدة في أفق بناء مجتمعات ديمقراطية يسود فيها القانون والعدل والمساواة والتنمية.