المنبر الحر | الممارسة السياسية في العالم العربي وضرورة تصحيح الرؤية

بقلم: بنعيسى يوسفي
إن العمل السياسي أو الممارسة السياسية في المغرب خاصة، وفي العالم العربي عامة، يغريان بالكتابة باعتبارها هي نفسها موضوعا لها، وحقل جذاب لأهل العلم والاختصاص، يتتبعون كل تموجاته وتحركاته، وما ينتج فيه، والمستجدات التي تظهر فيه مع تعاقب الزمن بالتحليل تارة، وبالنقد والتمحيص تارة أخرى، هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فتكون في أحيان كثيرة مثار جدل، ومادة دسمة للنقاش، بفعل مجموعة من العوامل والظواهر، بل وحتى بفعل بعض الأمراض والأعراض التي تعتريها بين الفينة والأخرى، والتي تنم عن أن هناك أشياء وأمورا ليست على حالتها أو على صورتها الطبيعية، وتتخللها أعطاب ومثبطات تحتاج إلى تشريح هادئ لاستئصال ما يجعلها تبدو مشوهة، خاصة حينما يرتبط الأمر بعلاقة السياسة بالسلطة وبالعمل الحزبي، وسوء الفهم الكبير الذي يصاحب ذلك من طرف الكثير من السياسيين حيال ذلك، حيث نلمس فقرا فظيعا على مستوى فهم الآليات التي تتأسس عليها السياسة، وفقرا أيضا على مستوى ضبط استراتيجيات السلطة ومن استيعاب ذرائعية الحزب، ومدى استيعاب هؤلاء للمفاهيم والنظريات السياسية الحديثة، وهذه التوصيفات تكاد تعكس الوضع أو المشهد السياسي العربي عامة، حيث يبدو أن أغلب السياسيين العرب لا زالوا لم يتجاوزوا بعد في ممارستهم السياسية بعض مما ذكرناه من المقومات الأساسية، والعناوين الكبرى التي يتأسس عليها الفعل السياسي الحقيقي.. هذه المقومات التي يمكن اعتبارها بمثابة العتبة الأولى من الفهم السياسي، وهذا ما يتطلب من السياسيين العرب مدة كبيرة لاستيعاب كل هذه الأوليات قبل الإقدام على أي شكل من أشكال الممارسة السياسية، وللأسف، هذا ما لا نلمسه عندهم، فالكثيرون يعتبرون المجال السياسي مجالا مشرع الأبواب لمن هب ودب، في استصغار واستسهال عز نظيره لهذا الحقل الذي يتميز بحساسية خاصة عكس ما يدور في خلد زمرة من الناس، دون أن يدركوا أن له ضوابط وقيما فكرية وتصورات نظرية اشتغل عليها فلاسفة كبار وعلماء سياسة لا يشق لهم غبار، وهذا ما يثير سؤلا مقلقا وحرجا، وهو حول تصور السياسي العربي للسياسة، كيف ينظر السياسي العربي للسياسة وكيف يتمثلها في ذهنه؟ هل يتوفر السياسي العربي على ثقافة سياسية تستمد نسقها من الأنتربولوجيا السياسية، كما كتب عنها مثلا برهان غليون، أو سوسيولوجيا السياسة كما كتب عنها مثلا ماكس فيبر أو بورديو، أو علم النفس السياسي، وقس على ذلك؟ ماذا يعرف السياسي العربي عن تطور الممارسة السياسية وتاريخها، والمحطات الحاسمة في هذا المسار، خاصة مع الثورة الفرنسية بالخصوص مع كتابات جاك روسو ومونتيسكيو، وآخرين في هذا المجال؟ ثم هل ينظر إليها من منطلق أنها آلية من آليات تدبير الشأن العام وفق قواعد وضوابط دستورية وقانونية معينة وما إلى ذلك، أم أنه ينظر إليها من منطلق أشمل وأعم، وهو المنطلق الفكري الفلسفي والنظري باعتبارها صنفا من أصناف العلوم، سواء من حيث التعريف والدلالات، أو من حيث آليات الاشتغال، أو من حيث أصناف السياسيين، أو من حيث علاقتها بالسلطة، أو من حيث علاقتها بالأحزاب.. وهلم جرا؟
كثيرة هي الأسئلة التي يمكن طرحها إذا أردنا مقاربة هذا الموضوع من كل جوانبه، لأنه متشعب وتتعدد فيه الآراء، وتناغما مع الفكرة المبدئية التي أشرنا إليها سالفا من كون أن السياسي العربي لم يتجاوز بعد المرحلة الأولى من الفهم والوعي السياسيين كما قعد لهما كبار علماء السياسة، وقفز قفزة كبيرة إلى مراحل لاحقة، تلك المرحلة التي يجب أن يتشرب فيها السياسي العربي بعض مداميك العمل السياسي انطلاقا من معرفته أولا لمفهوم “السياسة” بعيدا عن التعريفات الدوغمائية التي تسوغ كل شيء، وثانيا “السلطة”، باعتبارها آلية من آليات التدبير السياسي، ثم “العمل الحزبي” باعتبار الحزب هو التنظيم المستحدث الذي يمد شرايين السياسة بالدم والأكسجين حتى تكون للسياسة معنى، فالحزب يبقى هو حجر الزاوية في كل عمل سياسي حقيقي، لذلك أعتقد أنه في الوقت الراهن، يجب أن ينحصر النقاش على هذا المستوى، وبعد ذلك، يمكن الانتقال إلى مستويات أخرى أكثر تقدما وهكذا ذواليك، إذ لا يجب أن يفهم من هذا الكلام أنه دعوة إلى التوقف عن كل شيء، والعودة إلى نقطة البداية ويبدأ النقاش، ليس هذا تماما، فنحن نطمح إلى محاولة إعادة تشكيل الواقع السياسي العربي بشكل تدريجي، وفق منطق وتصور يبدأ من القاعدة، أي بالعودة إلى أصول وقواعد العمل السياسي البناء، وذلك من أجل الوصول إلى القمة، عبر مراحل ومحطات، لذلك يجب على “السياسي العربي” الذي يمارس السياسة حاليا بأي شكل من الأشكال، أن يعيد ترتيب أوراقه وأن يخوض غمار قراءة السياسة كعلم قائم بذاته، وأن يطلع اطلاعا واسعا على الفكر السياسي بكل تشعباته وتفاصيله، حينذاك يمكن له أن يصحح مساره وخطابه السياسيين، وأن يعيد النظر في مجموعة من السلوكات السياسية التي تصدر عنه، لأنها لا تحكمها أي خلفية فكرية، لذلك قد لا تجد لها وقعا على أرض الواقع، وأن تصبح له لغة سياسية حقيقية، ورؤية مغايرة للواقع والمشاكل التي يعانيها المجتمع الذي يعيش فيه، ومن تم تكون له القدرة على قراءتها قراءة سليمة، ومقاربتها مقاربة ثاقبة وموضوعية، وبالتالي، محاولة اجتراح حلول واقعية لها، أما والحال عكس ذلك، فإنك ترى المجتمعات العربية تعاني مشاكل عميقة وجوهرية في مجالات عدة يزيد عقم الإبداع السياسي عند “السياسي العربي” من تكريسها وتفاقمها.