المنبر الحر

المنبر الحر | جامع أو كلية الأندلس بفاس

بقلم: ذ. الحسن العبد

    إذا كانت مدينة فاس، العاصمة الروحية والعلمية للمملكة، قد حظيت باهتمام كبير من لدن الباحثين من مختلف التخصصات، واللغات والثقافات، والذين يتفقون كلهم على أنها “مدينة جليلة القدر، كثيرة العمارة، متميزة الحضارة”، فذلك لكونها مزيجا من عدة حضارات وثقافات، إذ ورثت شهامة العرب وكرمهم، ورقة أهل الأندلس وأناقتهم، وبراعة اليهود ومكرهم، وعناد البربر وشجاعتهم… إلخ، ففاس من أعرق المدن المغربية والعربية تضم في أحضانها معالم حضارية عريقة، كجامعة القرويين، وكلية الأندلس، على سبيل المثال لا الحصر، فإذا كان بيت الله القرويين، كجامعة دولية، قد أخذت حقها من العناية من لدن الأعلام والأقلام، فإن جامع الأندلس، ككلية، لم تلق نفس الاهتمام من لدن الباحثين، وإن كنا جميعا نتفق على أسبقية القرويين العلمية وفضلها الكبير على غيرها من جامعات العلم في العالم، وليس فقط في المملكة المغربية.

ففاس، تنقسم إلى عدوتين: عدوة الأندلس وعدوة القرويين، الأولى بناها المولى إدريس سنة 192هـ، أما الثانية، فبناها بعد ذلك بعدة سنوات، أي أن باب الفتوح هو السباق إلى الوجود في فاس، والكل بفاس، ولقد كانت المدينة أول الأمر صغيرة، وكان البناء فيها يقتصر على ناحية كرواوة وما جاورها، وهي الناحية التي استقبلت المولى إدريس عندما وطئت قدماه فاس، حيث بنى مسجدا صغيرا سماه مسجد الأشياخ، وهو المعروف بمسجد الأنوار، وسيدي بوجيدة اليزغيتي هو الذي باع الأرض لبناء المسجد للمولى إدريس، فكانت الوفود تتوالى عليه وتنضم إلى دولته وتستظل بحمايته، فضاقت المدينة، فعمد إلى بناء الضفة الأخرى، حيث بنى دورا للسكنى ومسجدا آخر عرف فيما بعد بمسجد الشرفاء.

تتمة المقال بعد الإعلان

كانت العدوة الأولى، أي عدوة الأندلس، مسكنا للأندلسيين الذين التجأوا إلى المغرب بعد فرارهم من الحكم بن هشام، الذي أوقع بالفقهاء، فنسبت إليهم، أما العدوة الثانية، فقد استقر بها المولى إدريس مع بعض القيروانيين، فعرفت بعدوة القيروانيين، ومن أعظم مساجد فاس التي يتهافت الناس على التعبد فيه والاستماع إلى العلماء والخطباء من منبره، مسجد الأندلس، الذي كان كلية، عبر التاريخ، ومنذ بنائه، تكاد تكون مختصة بدراسة الفقه المالكي وتحليل كتبه، ورغم أن مسجد الأندلس كان يدرس به منذ العهد الأول بعض فطاحل العلماء ويخطب به فضلاؤهم، فلم يلق حقه، ولست أدري لماذا لم يهتم به العلماء والباحثون كما هو الحال مع جامع القرويين.. فما يميز عدوة الأندلس باب الفتوح، على غرار عدوة القرويين المدينة العتيقة، هو تواجد هذه المعلمة الدينية الكبيرة التي نفتخر بها كأبناء وبنات هذه العدوة العتيقة، بل نحبها بشكل روحاني عميق جدا، ألا وهو مسجد الأندلس الغالي، أو كما يسميه الدارسون “مسجد الأندلسيين”، الذي ربّانا آباؤنا على ارتياده منذ نعومة أظافرنا للصلاة والذكر وتلاوة القرآن الكريم وحضور مجالس وحلقات علمية بين يدي فقهاء فضلاء أجلاء من أمثال العالم بنسودة والفقيه الجابري الحياني والخطيب اربيحة، وغيرهم من أئمتنا المحترمين، ولا يسعنا إلا أن نشير إلى أن المسجد المذكور عرف عدة ترميمات وإصلاحات جوهرية في السنوات الأخيرة، وحظي برعاية خاصة من طرف الملك محمد السادس، أدخلت الفرحة على قلوب مرتاديه ونالت إعجابهم، لكونها تحافظ على استمرارية معلمة دينية لا مثيل لها بهذه العدوة.

فجامع الأندلس بفاس هو منارة روحية تبرز أصالة الفن المعماري المغربي، ويقع في فاس البالي، ويرجع تاريخ المسجد إلى زمن تأسيس المدينة في القرن التاسع، حيث اكتمل التأسيس الأولي عام 859-860، مما يجعله من أقدم مساجد العالم، ومن ذلك الحين، شهد عدة عمليات توسيع وترميم، واليوم، يعتبر من المباني القليلة الباقية في المدينة منذ العصر الإدريسي.

وحسب الدارسين، فقد بني المسجد بتكليف من مريم أخت فاطمة الفهرية، لكن تصميمه الحالي يعود في مجمله إلى فترة حكم محمد الناصر الموحدي، وقد عرف إضافة نافورة ماء وخزانة في العهد المريني، وخلال الفترة العلوية قام السلطان المولى إسماعيل بعدة إصلاحات، كما أن هندسة جامع الأندلس تجسد فنا معماريا وتراثا تقليديا غاية في الجمال، يعود إلى الحقبة الأولى من دخول الإسلام إلى شمال القارة الإفريقية، حيث أبدع في تشييده صناع وحرفيون مهرة، ولا يبعد كثيرا عن جامع القرويين، ويحمل الحي الذي يوجد فيه الجامع اسم “الأندلس”، أي عدوة الأندلس، باب الفتوح.

تتمة المقال بعد الإعلان

لقد خضع جامع الأندلس، حسب وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، منذ تأسيسه، بشكل متواصل لعمليات توسيع وترميم وتنميق بقطع مختلفة من الأثاث (ثريات، منبر، ساعات حائطية)، حيث زوده الموحدون في القرن الثالث عشر (1204م) بباب أثرية، تقود مباشرة إلى صحن الجامع عبر أربعة عشر درجا تطل على واجهة المسجد الشمالية، ويتميز الباب الأثري الضخم للمسجد باحتوائه على تشكيلات زخرفية دقيقة من أفاريز من الخشب المنقوش، وزليج متعدد الألوان، وتطل صومعته التي شيدت في القرن العاشر وفق نموذج توأمتها لصومعة القرويين، على عدوة الأندلس، وجرى تزويده بالماء العذب من عين تقع خارج باب الحديد من عدوة القرويين، حيث ظل ماء المسجد ينسكب في العديد من السقايات والنافورات التي تزين الفناء ودار الوضوء.

ويحتل جامع الأندلس مكانة متميزة عند أهل مدينة فاس، الذين يعتبرونه من المعالم الدينية والروحية المتميزة، فهو بحق يأتي في المرتبة الثانية بعد جامع القرويين، وتحيط به أحزمة من البيوت التاريخية والمعالم الثقافية والتاريخية، كما ينبض الفضاء المجاور للمسجد بحركة تجارية كبيرة.

أما الآن، فقد قل العلم به للأسف، ليقتصر على التعبد والعبادة، وذلك بسبب انتقال الدراسة العلمية من المساجد إلى الكليات الخاصة والمدارس العصرية، ومسجد الأندلس بالطبع، كما يقول علماؤنا الأجلاء، ما زال يقوم بدوره الديني، أما الدور العلمي فقد كاد أن ينعدم إلا من بعض المتطوعين الذين يلقون بعض الدروس النحوية أو الفقهية البسيطة يعينون بها المبتدئين، أو من فئة تقوم بدروس الوعظ والإرشاد تابعة لوزارة الأوقاف التي تشجع هذا الجانب الديني في جميع مساجد البلاد، وهي تحاول بذلك أن تعيد للمساجد قيمتها الاجتماعية في هذا العصر الذي طغت فيه كثير من المظاهر المادية على الناس، فغيرت وجهتهم من المسجد إلى المقاهي والملاهي، فعسى أن تنجح في مسعاها، وطوبى لمن أحيا بيتا من بيوت الله.

تتمة المقال بعد الإعلان

‫2 تعليقات

  1. عناية تبدو وكأنها لا تسمن ولا تغني، تلك التي نالتها جامعة القرويين من “الأعلام والأقلام”، والشاهد على ترتيبها بين الجامعات، سواء محليا (25) أو عالميا ( 10257).

  2. عناية تبدو وكأنها لا تسمن ولا تغني، تلك التي نالتها جامعة القرويين من “الأعلام والأقلام”، والشاهد على ذلك ترتيبها المتدني بين الجامعات، سواء محليا (25) أو عالميا ( 10257).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى