المنبر الحر

المنبر الحر | في ضيافة بائع الكتب

بقلم: ذ. الحسن العبد

                     

    في البداية، أطالب كأستاذ يهمني أمر الكتاب، كل مسؤول إداري أو منتخب مثقف، ومن له غيرة على العلم والعلماء وطلبة العلم، بأن ينتبه لحالة الكتبيين الذين أبوا إلا أن يخدموا العلم بمنتهى التعب والمعاناة، استجابة لأمر إلهي صرف: ((اقرأ))، فهم في طاعة الله يشتغلون، فاصنعوا لهم دكاكين أو أسواقا للكتب تليق بالعلم والعلماء، ولنا في حالة قنطرة “الليدو” بفاس أحسن مثال على الإهمال الذي يطال الكتب الورقية المستعملة، وجزاكم الله خير الجزاء.

تتمة المقال بعد الإعلان

إن مشاهد بيع وشراء الكتب المدرسية المستعملة تتكرر يوميا في الساحات الرحبة ببلادنا، بل تجدها حتى في الشوارع الكبيرة (الرباط مثلا)، بحيث تنتشر هذه الظاهرة منذ زمن بعيد في معظم المدن المغربية وكذلك بالقرى المحاذية، إذ تلجأ آلاف الأسر إلى بيع الكتب مقابل اقتناء أخرى مستعملة أيضا، في سبيل التقليل من مصاريف دراسة الأبناء، وتشكل تجارة الكتب المستعملة نشاطا موسميا ينطلق قبل انطلاق كل موسم دراسي وينتهي بعد شهر أو أقل على انطلاقه، وتذكرنا هذه التجارة، نحن جيل الستينات والسبعينات، بشكل خاص، بظاهرة تواجد الكتبيين المميزين المختصين في البيع والشراء، ليس فقط في الكتب المدرسية المستعملة، لكنهم يقدمون للقراء الزبائن نوعا من الكتب النادرة وبأثمنة زهيدة.

فمن من قراء ساكنة مدينة فاس ونواحيها لا يعرف الكتبي المثقف السي حسن النعايلي (الحلوي)؟ لا أظن أن هناك من جيلنا أو من الأجيال السابقة واللاحقة من لم يتعامل مع هذا الكتبي الشهير بفاس، وأنا شخصيا ومعي رفاقي، يرجع تاريخ معرفتنا به كتلامذة مدرسة باب الخوخة – بنين، إلى سنة 1968،عندما كنا نمر بالقرب من دكان أبيه رحمه الله، بواندو، وبعد هذه السنة بقليل، ستعرف ساكنة باب الفتوح با حسن معرفة جيدة، أكثر من ذي قبل، لأن أخاه الذي كان يعاون الأب في البيع والشراء، غرق بوادي سبو، وقيل لنا: “ردوا البال، سبو حالف حتى يدي سبعة كل عام!”، وبالطبع، لم نكن حينها نقصد سبو للسباحة، بل كنا نسبح مقابل “عشرة دريال” في مسبح البطحاء، أيام سفينة “مول الصبونة”، ولد فاس الجديد، رحمه الله.

ويقول الأستاذ نزار الفراوي عن هذا الكتبي، بأحد المواقع الإخبارية الشاملة لجهة فاس-مكناس، في مقال عنونه بـ”با حسن كتبي فاس.. عراب القراء ثأر لطفولته فشيد محرابا للمعرفة”: ((يصبر على رقدته الجبرية في ركن البيت. تدفئه الذكريات البعيدة القريبة وتنعش قلبه طرقات بعض الخلصاء على الباب.. يعيش عامه السابع والستين، أمضى منها زهاء نصف قرن في خدمة الكتاب.

تتمة المقال بعد الإعلان

هو العراب الكبير لأجيال القراء والطلبة عبر التاريخ الحديث لفاس، هو الذي لم يقعده عن مواصلة المسار غير شلل نصفي صعقه في ذروة نشاطه)).

بالفعل، فصديقنا الغالي والعزيز علينا سيدي حسن الحلوي، في حالة مرضية مزرية، وقد زرته بمعية بعض الإخوة، بصفتنا أصدقاء جميعا له، بالطبع فرح بهذه الزيارة وأعرب لي عن استعداده للحديث معي عن ذاكرة باب الفتوح، نظرا لما لديه من دراية عميقة بالأحداث، بفضل الكتب التي مرت على يديه، والنفائس التي ابتاعها له ورثة العلماء الذين يتخلصون من كنوز غالية أثقلت كاهل أصحابها الفعليين بالديون، وعاشوا في الزهد مضطرين، بسبب كثرة الإنفاق على العلم، وأبناؤهم وبناتهم يقصدون با حسن لبيع كل شيء.. يا للعبث!

عندما كنت أتابع دراستي بإعدادية مولاي عبد السلام بن مشيش، كان أحد رفاق الدراسة يسكن بالعطارين، وكنا معا نقصد حومته لنبيع ونشتري في الكتب المستعملة، وغيرنا من التلاميذ كثير بالقرب من باب خزانة القرويين، التي كنا نقصدها كذلك تقريبا مرتين في الأسبوع للقراءة بالقاعة (بالنوبة)، بعد استعارة الكتب، وكان البيع والشراء مزدهرا كذلك ببوطويل، وهنالك سنلتقي ببا حسن ونخبئ كتبنا مع كتبه، وكل يوم نقصد نفس الأماكن ونبيع ونشتري ونحن نقرأ في نفس الوقت، أما حسن، فبدأ يبيع بالغرو، ازدهرت نوعا ما العملية الكتبية لديه، فانتقل إلى دكان بالنجارين، وهنا سيقصده الجميع، هذا يبيع له ما لديه من سلعة علمية، والآخر يشتري منه، والحركة العلمية والأدبية مزدهرة، ولله الحمد، يقول الأستاذ نزار الفراوي واصفا النشاط التجاري عند با حسن، وكثرة العرض والطلب لديه: ((اسمه المفرد يكفي للدلالة عليه في سوق الكتب المستعملة، فكلما نشب الحديث عن كتاب مطلوب في صفوف الطلاب، إلا وكان فك العقدة عند حسن، حتى أن قليلين من يعرفون أنه حسن النعايلي الملقب بـ”الحلوي”، الرئة التي تنفس منها جيل الكتاب الجامعي وعشاق المصنفات الأدبية والعلمية من أقصى الآفاق)).

تتمة المقال بعد الإعلان

والملاحظ عليه، هو أنه كان، بين الفينة والأخرى، يحصل على بعض المذخرات، والمسكين يقصد علياء القوم وبعض المسؤولين الكبار بكتب نفيسة، لعلهم يعتنون بها، ويقدمونها لخزانة القرويين أو إلى المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، فتحفظ، لكن للأسف، توضع في سلة المهملات، وبا حسن سيواصل الكفاح بالتحول إلى جامعة سيدي محمد بن عبد الله ليفرش كتبه، ويبيع ويشتري مع الأساتذة الجامعيين والطلبة، وأتذكر يوما، شخص ما بالليل حرق كتب با حسن، وفي الصباح، طلب مني وكنت حينها بالسنة الأولى شعبة التاريخ والجغرافيا، سنة 1982، أن ألقي كلمة بإحدى المدرجات ليساعده الطلبة، ثم تراجع وترك الأمر لله هو الرزاق، واستقر به الحال بالقرب من قنطرة “الليدو” ليعرض كتبه كأول بائع بالسوق من حيث المكان، ولعلمكم، فشقته مليئة عن آخرها بالكتب، وبعد ذلك، التقينا بباريس سنة 1983، والغريب، أن اللي فيه شي بلية فيه، فكلما مر با حسن من مكان ما فيه قمامات بجانبها الكتب مشتتة، إلا وبدأ يتصفحها ويختار السلعة المناسبة ليحملها معه، الله يرحم من جال وجاب، وأفضل ما حمله معه من تلك الزيارة لباريس، هو مجموعة من الكتب.

هو إذن الرجل الكتبي، ولد باب الفتوح، عدوة الأندلس، بفاس، الذي يعرفك ويعرف أفكارك وانتماءك السياسي وثقافتك، ونوعية التفكير لديك، هو بمثابة حاسوب كتبي، فقط قل له العنوان ليقصده بين مائة ألف كتاب، اللهم شافيه، طهور إن شاء الله.

تتمة المقال بعد الإعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى