المنبر الحر

المنبر الحر | أي لغة لتدريس المواد العلمية في مؤسساتنا التعليمية ؟

بقلم: عثمان محمود

    يبدو أن منظومتنا التعليمية قد أضحت تجيد القفزات في الهواء غير المحسوبة العواقب،وها هي بعد أن تخلت عن تدريس المواد العلمية باللغة العربية، وأقبلت، أو لنقل عادت إلى تدريسها باللغة الفرنسية، (ها هي) قد انطلقت هذه الأيام أصوات تطالب باعتماد اللغة الإنجليزية لغة ثانية بدل الفرنسية، كما بدأ الحديث في العلن عن التخطيط لإدراج فعلي لها كلغة ثالثة في السلك الابتدائي والإعدادي، وهو ما يعبر بحق عن تخبط واضح في هذا الشأن، فبالله عليكم أي دراسة جادة هذه التي أنجزت كتقويم عملي لتدريس المواد العلمية باللغة العربية  حتى تكون الحكم الفيصل في التخلي عنه بعد مرور ما يزيد عن ثلاثين سنة، حيث تخرجت في ظله أفواج وأفواج، العديد من أفرادها ولجوا مجالات مهمة بما فيها الطب والهندسة، بل الكثير منهم هاجر إلى بلدان أخرى، وواصلوا هناك الدراسة بلغات أخرى، فحققوا البغية وزيادة، والأمثلة أكثر من أن تذكر.. فهل التعلمات التي اكتسبتها تلك الأفواج باللغة العربية عاقت مسيرتها التعليمية؟ وأكثر من هذا، أليس هناك عدد غير قليل ممن هم الآن في أعلى المناصب يفخرون بأنهم أبناء التعليم العمومي الذي تبنى تعريب المواد العلمية المدروسة نهجا، وقد نالوا شهادة الباكالوريا بمعدلات مشرفة؟ فلماذا هذا التخلي عنه بجرة قلم، وبهذه الكيفية المتسرعة بلا حسيب ولا رقيب، أم أنه الارتجال الذي لا يعير أدنى اهتمام إلى البحث والتقييم، من أجل تقويم ما اعوج وإصلاح ما دب إليه الفساد قصد مواصلة المسير في أليق الظروف، وأحسن الأحوال؟ ألم يكن من الأولى العمل على ضخ دماء جديدة في ذاك التعريب الذي تم تبنيه عن اقتناع، ولم يبخل في تحقيق أهدافه؟ ألم يكن حريا بالساهرين على هذا القطاع الحساس إعداد مناهج دراسية متقنة، مواكبة لروح العصر، ومنفتحة على مسارات التعليم والتربية في الدول الرائدة في هذا الباب، وتجديد المقررات حينما يتطلب الأمر ذلك، بعيدا عن تسليم الكتاب المدرسي إلى من في حوزتهم المال للتحكم في امتلاك زمام ذاك الكتاب حتى لو كان محتواه متجاوزا، وحتى لو دبت إليه الشيخوخة فإنه لا حديث عن استبداله ما دامت الصفقة التجارية سارية المفعول؟! وهل ينكر أولئك الساهرون على قطاع التعليم أن التكوين المستمر للمدرسين والمدرسات شيء أساسي في عملية مواكبة كل جديد في هذا الباب؟ فليتابعوا عن كثب معاناتهم هذه الأيام بعد هاته القفزة الهوائية من العربية إلى الفرنسية، حيث وجدوا أنفسهم مكتوفي الأيدي أمام ضعف التلاميذ الكاسح في التحكم في اللغة الفرنسية قراءة وكتابة، الأمر الذي دفعهم إلى المزاوجة بين العربية والفرنسية في تعبير صادق عن حال الغراب الذي رغب في تقليد مشية الحمامة، فماذا لو تمت الاستجابة إلى أصوات الداعين إلى إقحام الإنجليزية في هذه المعمعة؟

فليعلم الذين يهمهم الأمر، أن اللغة العربية ليست إلى هذه الدرجة من الضعف الذي يجعلها عاجزة عن نقل المعارف العلمية إلى التلاميذ والتلميذات، وإن كان من تقصير، فمن أهلها الذين لم يبذلوا الجهود تلو الجهود للرفع من دورها في هذا الصدد، وتحفيز التلميذ على التشبث والاعتزاز بها، ولن يتم هذا ما لم يرها حاضرة بشموخ في أرقى المعاهد والجامعات داخل البلد الحبيب، طبية كانت أو هندسية وما إليها، وما لم يعرف أن إتقان اللغة الأجنبية الثانية أو الثالثة هو من أجل الانفتاح على ثقافة الغير، والاستفادة من تجاربه قصد تغذية المعارف وتنميتها بدل الذوبان في ثقافته والتفريط في الثقافة الشخصية، والتخلي عن الجمل وما حمل.

تتمة المقال بعد الإعلان

في الختام، فلننتبه إلى هذا الحماس الزائد للغة الإنجليزية، فكونها لغة عالمية لا يعني تبنيها بدون تكوين جدي للمدرسين والمدرسات معرفيا وبيداغوجيا، وبدون إعداد مناهج ومقررات بمواصفات دقيقة تراعي القيم والخصوصيات، مع حضور مقص الرقيب في الكتب المدرسية العابرة للبحار، والحذر كل الحذر من أن تسارع بعض المدارس الخاصة، ولو من أجل الاستئناس، إلى إقحام مقررات للرياضيات أو الفيزياء أو علوم الحياة والأرض باللغة الإنجليزية، تلافيا لكل خلط للمفاهيم لدى التلميذ، فالمصطلحات باللغة العربية في الأذهان لا زالت تقاوم المصطلحات بالفرنسية، التي فسح أمامها المجال.. فما بالك إذا تم إدراج تلك المصطلحات باللغة الإنجليزية ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى