المنبر الحر

المنبر الحر | القيم والمعتقدات في عصر الأنترنيت والمعلومات

بقلم: ذ. الحسن العبد

    يشكل الإسلام بعقيدته ومبادئه، وآدابه وأخلاقه، وشرائعه وشعائره، بديلا لعلاج أزمة القيم في عصرنا، ليس فقط في المجتمعات العربية والإسلامية، بل في كل المجتمعات.. فالدين الإسلامي شامل كامل ورحمة للعالمين يستجيب لمختلف جوانب الحياة، حيث تجد من الأحاديث النبوية المشهورة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ)).

لقد جاءت رسالة الإسلام التي حملها النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، تتمة لما قبلها من الرسالات، ومكملة لما سبقها من الأخلاق، ولم تكن شريعته تشريعات وأنظمة وأخلاق مفصولة عما سبقها، بل كانت بناء يكتمل ببعضه البعض، وقد أثنى الله تعالى على خلق الأنبياء جميعا فقال عزّ وجل: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)) (سورة الأنعام الآية 90،)، لذلك، فنحن اليوم في أمس الحاجة لإعداد باحثين دينيين وتربويين مرشدين عالميين على طراز عصر العولمة والمعلومات، تكون لهم قدرة على الجمع بين علوم الدين الشرعية وعلوم الدنيا النفعية بصورة فعلية، من أجل إعداد جيل رباني قرآني نافع وصالح من فلذات أكبادنا، رجال الغد.

يكاد يتفق الجميع على أنه ليس لنا اليوم حياة مستقلة بمنأى عن سيطرة التكنولوجيا الآسرة، فهي تفرض علينا، كما يقال، منطقها وقيودها، وبسببها تئن حياتنا الروحية تحت وطأة الخواء، وفي هذا الصدد، يقول أحد الباحثين الإسلاميين: “مع عصر المعلومات، نسينا مطالبنا الوجدانية وحاجتنا الدائمة إلى المثل العليا وإلى الألفة والتآخي والإحساس بالذات وبالهوية، ومع المد العلمي والتكنولوجي، انحسر الخطاب الديني”.. إنها والله بحق، كلفة حضارة العصر التي ارتكبت الخطايا التي حذر منها غاندي: سياسة بلا مبادئ، وتجارة بلا أخلاق، وثروة بلا عمل، وتعليم بلا تربية، وعلم بلا ضمير… فاليوم تجد الكثير من الأقلام الواعية والضمائر الحية يطالبون العلماء بالنزول من أبراجهم العاجية، وألا يقصروا همهم على النشر العلمي، ويقومون بالحضور المكثف على الأنترنيت، وأن يعيشوا خارج أسوار معالمهم، ليواجهوا مسؤولياتهم نحو ما يمكن أن يؤدي إليه الاستغلال غير الأخلاقي لنتاج فكرهم في عصر المعلومات.

ويتفق جل العلماء على أن الذي نظم الكون وأسسه على قواعد مُحكمة ودقيقة، لا بد أن يكون قد نظّم كتابه (القرآن) على قواعد وأنظمة غاية في الدقة، بمعنى آخر، كلنا كمسلمين، نقول ونردد: “خَلْقُ اللّه مُنَظَّم، كتاب اللّه مُنَظَّم، ولا وجود للعبث أو الفوضى في خَلْقِ اللّه…” مستحضرين الآية بتدبر: ((صُنْع اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ)) (سورة النمل: الآية 88)، إلا أننا الآن أصبحنا في خطر إذا لم نستفد من كنز أتانا على طبق من ذهب، ألا وهو القرآن الكريم لنسترشد به، ليستقر حال المسلم مع الأنترنيت اليوم على الهداية بدل الضلال، فقد ((جاء رجل إلى عبد الله بن المبارك فقال له: “أوصني” فقال: “راقب الله”، فقال الرجل: “وما مراقبة الله؟”، فقال: “أن تستحي من الله”)) (ابن داوود)، وفي هذا السياق، يقول بعض العلماء، أنه لم يتنبأ أحد من الناس، بل حتى مخترعو الأنترنيت، لحظة ابتكاره خلال ستينيات القرن الماضي، أن يصير العالم أسيرا له، ولم يتخيلوا أن تتحول حياة الكثير من الناس بلا معنى دونه، أو أن يعيشوا بعيدا عنه، بل إن ما لم يكن في الحسبان، صار اليوم حقيقة، إذ انضم الأنترنيت بفعل التعلق الشديد به، إلى قائمة المواد المدمن عليها، فالتعلق المرضي والارتباط السلبي بـ”الفايسبوك” و”الواتساب” و”تويتر”، وغيرها من وسائط التواصل الإلكتروني، لا يعني إلا صورة من صور الإدمان، والتي يشعر فيها المدمن بألا وجود له إلا بوجود الأنترنيت، ولا عيش له إلا معه وبه، الاهتمام بالذات يتلاشى أمامه، والعناية بالمحيط تفتر، والمناعة النفسية لمواجهة المشاكل اليومية تقل، هذا دون أن نغفل ما تحمله هذه الشبكة من مخاطر ومضامين سلبية مصاحبة، ابتداء من ترويج الأكاذيب وإذاعة الإشاعات، مرورا بازدراء الآخرين والسخرية منهم، وانتهاء بنشر الصور الفاضحة والأفلام الخليعة.

والحقيقة التي لا غبار عليها، هي أن التعليم والتربية هما أساس كل تنمية في كل المجالات الحياتية، ولا تنمية بدون قيم، والعصر عصر المعلومات، والتعليم الإلكتروني، حسب كل التربويين، هو طريقة للتعلم باستخدام آليات الاتصال الحديثة من حاسوب وشبكاته، ووسائطه المتعددة من صوت وصورة، ورسومات، وآليات بحث، ومكتبات إلكترونية، وكذلك بوابات الأنترنيت، وبالتالي، فباستخدام التقنية بجميع أنواعها في إيصال المعلومة للمتعلم، يكون الوقت أقصر والجهد أقل والفائدة أكبر، لكن يجب العمل بجد على حسن تدبير هذه التقنيات الحديثة.

فما السبيل إذن إلى تدبير علاقة أمثل بين المسلم وعالم الأنترنيت؟

إنها دعوة تحذيرية من الله جل جلاله، بأن يتحرى المرء ويتبين قبل أن يلفظ كلاما أو يردد قولا لا علم له به، فكم من الرسائل المكتوبة والأخبار المنشورة هي مجرد أباطيل وأكاذيب لا دراية لأحد بحقيقتها إلا مفتريها، فما أحوج الناس عموما، والدعاة خصوصا في هذا الزمان، إلى قلوب سليمة، وعقول واعية، وألسنة صادقة، وأفكار بناءة تقف سدا منيعا في وجه هؤلاء الأفاكين المرضى، والكذابين الانتهازيين، المتسترين خلف مواقع التواصل الاجتماعي، وإلى جانب ما يذاع من ألوان الافتراء، هناك كم هائل من الرسائل والصور واللقطات المصورة، التي يتم تداولها بين فئة عريضة من الناس، مضمونها الشماتة والسخرية، لمجرد أن كلمة أو خطئا أو هفوة سقط فيها شخص ما، فالعديد مما يتداول من مشاهد السخرية، يكشف سوء الأخلاق، وضعف الوازع الديني، اللذين يعيشهما مدمن الأنترنيت، لذلك، لا ينتهي خطر الإدمان والاستخدام السيء للأنترنيت عند حدود تداول الأكاذيب والسخرية من الآخرين، بل إن الخطر يتعاظم بتداول الصور والأفلام الإباحية، والتي تلقى على الشبكة عناية واهتماما من لدن شرائح عمرية مختلفة، ومستويات اجتماعية متنوعة.

أمام هذه المخاطر والمحاذير، يبدو لدى البعض أن أسلم طريقة للتعامل مع الأنترنيت هي الاستغناء والتخلي عنه، نظرا لأثاره السيئة على النفس والمجتمع، لكن الصواب، أن تدبير علاقة المسلم بالأنترنيت لا تتم على هذا النحو، فالكثير مما أوجده الله في هذا الكون إلا ويحمل خيرا من وجه وشرا من وجه آخر، فالأنترنيت شأنه شأن العديد من الفتوحات العلمية، والكشوفات التقنية، تحمل في طياتها مزايا ومعايب، مصالح ومفاسد، خيرا وشرا، لذا تبرز الحاجة ملحة وضرورية لتدبير أمثل لعلاقة المسلم بالأنترنيت، وتبقى مراقبة الله علاجا للعديد من الأدواء النفسية والتربوية والاجتماعية، مراقبة الله هي الغلاف الإحساني الذي يصون القربات من الزلل، وهي التعبير النبوي لمضمون الإحسان: ((فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، وهذا لعمري ديدن الأولياء المؤمنين الأتقياء الذين علموا فلزموا باستقامة على الطريقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى