بين السطور | الرضى غاية لا تُدرَك


من بين القصص الشهيرة والقديمة جدا(…)، أن رجلا قصد ذات يوم السوق رفقة ولده ومعهم حمارهم، ورغبة منهم في التخفيف على الحمار، لم يركبه لا الرجل ولا الابن، ولما رأتهم جماعة من الناس، قالت: “ما لهذا الرجل اللئيم يشقي نفسه مشيا على الأرض وابنه تاركين الحمار”، ولما سمع الرجل هذا الحوار، ركب الحمار رفقة ابنه، وعند مرورهم بجماعة أخرى سمعهم يقولون: “يا لهم من عديمي الرحمة وقساة القلب، يركبون الحمار سويّا ولا يكفيهم أن يركب واحد منهم كي لا يتعب الحمار”، فإذا به أنزل ابنه وظل راكبا وحده وولده يمشي خلفه، حتى مروا بجماعة أخرى قالت في وجهه: “يا له من أب قاسي يترك ابنه يمشي وراءه ليظل هو مرتاحاً بالركوب وحده”، وبعد سماعه لكل هذا(…)، نزل من فوق الحمار وجعل ولده يركب مكانه ليظل هو يمشي وراء الحمار(…)، ليمروا مرة أخرى بجماعة أخيرة(…)، همست في ما بينها بالقول: “يا له من ابن عاق، يركب الحمار تاركا أباه الكهل والمُرهق يمشي خلفه”، لينتهي المطاف بالرجل بالخروج باستنتاج شاركه مع ابنه قائلا: “أرأيت يا بني، إن رضى الناس غاية لا تُدرك، فلا شيء يعجبهم مهما فعلت”.
وإذا كانت الحكمة التي خرج بها هذا الأب لا زال الناس يتداولونها إلى يومنا هذا، فكذلك حال السياسة، ومن تم، إذا كانت الجهود الدبلوماسية التي أصبحنا نسمع بها يوميا تقريبا، والقادمة بالصوت والصورة من دهاليز وزارة الخارجية، بين التشاورات مع مبعوثي الدول، وشتى المباحثات حول سبل الارتقاء بمختلف العلاقات الثنائية لمصلحة شعبنا وشعوبهم(…)، وإذا كان الرضى والفخر هو ما يُعلن عنه(…)، فإن بعض التساؤلات تبقى كل مرّة قائمة في نفس كل واحد دون التفوه بها(…) حول الطرف الذي لا يُدرك الرضى، وما حصل هذا الأسبوع بعد أن توالت المواقف العربية والدولية المنددة باغتيال سلطة الاحتلال الإسرائيلي للمراسلة الصحفية شيرين أبو عاقلة أثناء تغطيتها لاقتحام مدينة جنين بالضفة الغربية، رغم ارتدائها لسترة تبين بوضوح أنها عضوة في الصحافة(…)، خير مثال على ذلك..
أحداث مثل هذه، تجعلنا نغض الطرف(…) عن بعض القرارات التي اتخذناها فيما قبل وجعلتنا نعتز بفوائدها، وحصدنا بها رضى عدة أطراف، من أبرزها الولايات المتحدة الأمريكية، التي نددت بشدة، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي، بمقتل مراسلة قناة “الجزيرة”.. فعندما نقرأ تغريدة المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس: “نشعر بالحزن الشديد وندين بشدة مقتل الصحفية شيرين أبو عاقلة في الضفة الغربية”، ولما تدعو وزارة الخارجية الأمريكية إلى إجراء تحقيق فوري وشامل بشأن هذه الحادثة، وحين نسمع نائبة السكرتير الصحفي للبيت الأبيض، كارين جان بيير، في حديثها للصحفيين بحضور الرئيس الأمريكي جو بايدن على متن الطائرة الرئاسية، تصرّح بالمثل.. فإن هذه الأمور تجعلنا نتساءل مع أنفسنا(…) ما إذا صح لنا إرضاء الصديق، أم العدو، أو بالموازاة مع الحكمة المذكورة في بداية هذا الموضوع، ما إذا حق لنا إرضاء الجماعة الأولى، أم الثانية، أم الثالثة، أم الرابعة، بتخفيف العبء على أنفسنا، أم على الابن.. أم على الحمار ؟
لو لم تكن شيرين تحمل الجنسية الامريكية لما نددت امريكا بجريمة الاغتيال