المنبر الحر

المنبر الحر | عالم ينفث الدخان

بقلم: بوشعيب حمراوي

    كثيرا ما أقضي الساعات الطوال ليلا ونهارا أتساءل عن مستقبل هذا العالم الذي باتت أنفاسه تنفث الدخان والجمر، وعن مصير الطبيعة والحياة، في ظل تواجد وتوالد هذا الكائن البشري المصاب بجنون العظمة وسعار الانتقام وهوس الريادة الواهية.. كثيرا ما أجدني أصطف إلى جانب من يعتقدون بقرب نهاية العالم، بل إنني أتمنى تلك النهاية، وأقبل بأدلة وحجج وقرائن المنجمين والمتدينين والمتطفلين، والتي يستدلون بها للتأكيد على قرب الزوال، طمعا في وقف مسلسل الحروب والاستنزاف المجاني للدماء البشرية..

ما يبدو واضحا بجلاء، أنه لا أحد بات يفكر في مصير الأجيال القادمة، وأن الإنسان قد ضغط على زر التدمير الذاتي وجلس يعد الدقائق والساعات في انتظار الرحيل الأكبر.. أجدني حائرا في نوعية هذا البشري الذي يستبيح ذبح بني فصيلته، ويقضي السنوات في البحث عن الطرق والأساليب والآليات الكفيلة بتوسيع المجازر البشرية عوض الدفع في اتجاه التسامح والتصالح والتآخي.. وسط هؤلاء، أبحث عن هوية فئة المؤرخات والمؤرخين النزهاء والشرفاء المرتقبين، الذين بإمكانهم كتابة تاريخ العالم المعاصر بكل صدق وأمانة، وصيانته من التحريف والتلفيف والتضليل، وتخطي الدمار الشامل الجاري بعدة مناطق بالعالم، وحمايته من الكساد الأخلاقي، والصمود أمام ملايين الكتاب والمدونين والأجهزة والهيئات السرية والعلنية التي تسوق بعشوائية وخبث للأحداث والوقائع في العالمين الافتراضي والواقعي، وتدعي المعرفة الكاملة والقناعة التامة بكل تفاصيلها وأسبابها وتداعياتها.

أتساءل: هل لهم القدرة للوصول إلى حقائق الأمور في ظل تلوينات الكذب وتجلياته وتضاعف عدد محترفيه بعالم بات يسكنه آدميون مخلصون للإجرام ومتواعدون على التنكيل بالبشرية والحياة؟

أتساءل: كيف يمكن لمؤرخ أن يستقي الخبر الصحيح والإحاطة بكل تفاصيله وسط عالم بات قادرا على أن يقر ويثبت بأن الخبر صحيح وزائف في آن واحد، وأنه لا ثقة في الأدلة والقرائن والمصادر الرسمية، وكيف يمكنه إقناع الأجيال القادمة بصدق وصحة رواياته وسط آلاف الروايات التي يتم تسويقها في كتب ومجلدات ومواقع إلكترونية واجتماعية من طرف من برعوا في الإقناع والإغواء في عالم لا يتردد في منح جوائز السلام لمجرمي الحروب والتوثيق لمنجزات ومبادرات خيالية نسجت بخيوط الوهم والتضليل؟

لم نكن يوما مقتنعين بما جادت به كتب التاريخ والجغرافية والفلسفة والأدب والسياسة والدين، ولم نكن أبدا على وفاق مع كل مضامين تركة هؤلاء المؤلفين والمؤرخين والفقهاء، رغم ما رسخ في عقولنا بالمدارس والثانويات والجامعات، لسبب بسيط، يكمن في أن معظم هؤلاء لم يكونوا يوما من عامة الشعوب، ولا ممن عايشوا أبناءها وأنصتوا لنبضات قلوبهم.. فقد كانوا يكتبون بالمقابل المادي والمعنوي، وفق التعليمات والمصالح التي تخدم الحكام والزعماء والقادة ورواد التطرف والاختلاف العرقي والعقائدي.. وكانوا لا يجدون حرجا في حذف المعلومات الصحيحة أو تغييرها بأخرى مغلوطة، أو حتى إحراق كتبهم إرضاء لأولياء نعمهم، لكن الشعوب كانت تكذب الكثير مما دونته أقلامهم، وظلت لعدة عقود ولا زالت، تختزن الأسرار والحقائق داخل العقول والقلوب والمنازل والمسالك والشعاب، وعلى أجزاء مختلفة من أجساد أبنائها ونفوسهم وسلوكياتهم. والكثير من تلك الأسرار والحقائق، التي لا زالت تتناقلها الأجيال، تؤكد زيف بعض المؤرخين وادعاءاتهم الباطلة، وظلمهم لتاريخ الشعوب وأمجاد رموزه الحقيقيين. نحن إذن، أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما، إما القبول بخيار الاحتضار القائم وانتظار نهاية العالم الوشيكة، والتي ليست في حاجة للتنجيم أو الفقه أو الدجل من أجل تبيانها، وإما خيار الإسراع في ترسيخ روح الإنسانية بجسد كل بشري حاقد أو منتقم، وجعله يرفع أصبعه عن زر التدمير الذاتي للحياة، وفتح المجال للمؤرخات

والمؤرخين من عامة الشعوب لكتابة التاريخ المعاصر وتصحيح ما أمكن من تفاهات الماضي المسيئة للآباء والأجداد، والمحبطة للأبناء والأحفاد، فالشعوب لن ترتقي في ظل تواجد تاريخ مغلوط لا ينصفها، والأجيال لن تنهض في ظل غياب القدوة الصحيح والقائد الصريح، ونزاهة الأنظمة ونهضة الشعوب تقاس بمدى مصداقية تاريخها.

للأسف.. فقد تعلمنا كيف نصنع الأزمات ونغذي البؤس ونزرع اليأس والإحباط هناك وهناك، ونسينا أن نوفر جزء من جهدنا وأراضينا لبناء الكرامة وتشييد السعادة وزرع المحبة، تعلمنا أن نقبل بكره العين قبل العقل وقبل القلب، وأن نسترق السمع في أمور لا تعنينا ونغوص سلبا في مشاكل غيرنا لنزيد من معضلاتها، تعلمنا أن نحضن الغريب قبل القريب، وأن نتركه بلا حسيب ولا رقيب.. تلك قيمنا تصيب وتخيب، لكن في ظل تناسل الخونة والمتربصين بالوطن، وجب التدقيق والبحث والتنقيب..

 نسينا ونحن نزداد غلا وحقدا تجاه بعضنا البعض، أن نوفر من غلنا وحقدنا قسطا ضئيلا لمواجهة أعدائنا ونمنح لبعضنا الوقت والمجال من أجل التسامح والتلاحم والتفاهم..

نسينا أن نجعل من سمومنا أسلحة فتاكة تقوينا وتحمينا وترهب خصومنا بدلا من أن نوظفها للتخلص من بعضنا البعض وإضعافنا وتشتتنا..

نسينا أن لمة الشعب هي الضمان وصمام الأمان لكل مشاريعنا، وأنه علينا إعادة تمتينها وشحن أنفسنا، لنوقف زحف الفساد والاستبداد، لنغير ما بأنفسنا، لأنه السبيل الوحيد إلى التغيير نحو الأفضل..

نسينا أن رضى الله لا يوجد فقط بالمساجد، لكنه هناك في الأحياء الهامشية والقرى النائية، هناك حيث البعض يئنون من قساوة الحياة وظلم البشر.. أبواب مفتوحة ليل نهار تنتظر من يقتحمها ليغير حياة من بداخلها..

نسينا أن الحياة وإن تجاوزت القرن، لا تغدو أن تكون أحلاما وكوابيس في لحظة غفوة أو غفلة، وأن بين الحقيقة والأحلام ستارة داخل العين تحكمها ذرة في الدماغ، ترمي بهياكلنا وأجسادنا هنا وهناك..

تلكم أخطاؤنا التافهة التي لا يمكن تصنيفها ضمن خانة الكبائر.. أخطاء من السهل تداركها وتصحيح مسارنا وتحصين وطننا.

لم يكن يوما العقل مرشدنا وراعينا في كل خطواتنا، ولم نتعلم بعد كيف نتقبل قدر السماء المحتوم كان ممطرا أو مجرد سحاب بلا غيوم.. كل عام وأنتم تصححون أخطاءكم وتخففون من ذنوبكم لتلقوا الخالق برصيد من الحسنات يؤمن لكم تأشيرة الجنة، وأوصيكم شقيقاتي وأشقائي بالشرف، لأنه مفتاح كل أبواب الغرف، وضامن إبعاد هذا القرف، وأدعوكم إلى اللمة من أجل وطن في القمة، ومن أجل حياة راقية تحمل شعار “كلنا مغاربة وكلنا عرب وكلنا مسلمون”، وتمعنوا كثيرا في هذين البيتين الشعريين اللذين كتبتهما في شبابي:

سيمة العقل الشرف           إن غاب عنه انحرف

ذبل الحق وانجرف               وعاش الباطل في ترف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى