المنبر الحر

المنبر الحر | لا لتسفيه الجامعة

بقلم: حسن الزهراوي

    الجامعة هي العقل، وهي القلب النابض للمجتمع، ولا يمكن لكينونة هذا المجتمع أن تتشكل ولا لذاكرته ولرمزيته أن تتأسس خارج هذا السياق، إنني حينما أفكر في الجامعة أجدها هي “القلعة الأنوارية” التي نشأت في أوروبا ابتداء من القرن 12م كرد فعل موضوعي عن التعاليم الأرثوذوكسية والإقطاع الكهنوتي الذي كان يشنق العلماء والفيزيائيين والفلكيين على المشانق، بعد تهمة الهرطقة والزندقة بعدما خالفوا شعار الكنيسة الذي كان مؤداه “آمن ولا تناقش”، فحجّر على التفكير، وكبّل العقل، نشأت الجامعة منذ البدايات الأولى للنهضة الأوروبية لتناقش قبل أن تؤمن ولترسخ قيم البحث العلمي التجريبي الفيزيقي/الدنيوي، وقد كان للجامعة الفضل في إشاعة قيم الأنوار والعقلانية والتفكير الموضوعي الذي يخوض في كل شيء، دون حواجز، وانتقل البحث من الغايات إلى الوسائل، وذلك بالانتصار للبرهان والانتصار لسلطة العقل كجوهر وحيد لا سلطة فوقه.

لقد كان تأسيس الجامعة في أوروبا فتحا مبينا، ولحظة معرفية فارقة في تاريخها، اللحظة الفاصلة بين أوروبا الحداثة وانطلاق البحث العلمي الواقعي، وبين أوروبا الوسيطية المظلمة الغارقة في صكوك الغفران، وترديد المقولات الكوسمولوجية الأرسطية الخاطئة، ومن كان يستطيع أن يناقش أرسطو كشيخ له كل الهيبة والقداسة، وكانت كتب أرسطو تؤثث مكتبات القساوسة، بل لا تجد مكتبة من مكتبات القساوسة بدونها، لأن مركزية الأرض التي قال بها أرسطو وثباتها وغيرها من المقولات الكوسمولوجية التي كانت تتماشى مع الكتاب المقدس، وكانت تخدم طبقات الإكليروس وامتيازاتهم الطبقية، إلى أن جاء كوبرنيكوس كمنتوج ثقافي جامعي في المقام الأول، أنتجته الجامعة، فوجه ضربة قاسية وموجعة لكهنوت المعبد القديم، وزلزل السلطة الرمزية للباباوية التقليدية، فأعدم، وكان لا بد أن يعدم، لتسترجع الكنيسة هيبتها ووقارها الذي بدأ يهتز اهتزازا عنيفا بعدما انتقد تعاليم بطليموس (ق/2 م) التي صاغها في كتابه “المجسطي”، ولم يكن كتاب كوبرنيك في “دوران الأجرام السماوية”، و”مركزية الشمس” ونظرية “دوران الأرض” التي طورها فيما بعد كبلر وغاليليو، إلا نتاج البحث الموضوعي الذي رسخته الجامعة في رحابها، البحث الذي ينسلخ من جلدية الذات لينتصر للموضوعية وللبرهان وللدليل المنطقي وللاستدلال العقلي، لقد كانت الجامعة في أوروبا حدثا كبيرا بلا منازع، وستظل تدين بالكثير لهذه “القلعة الأنوارية” التي صنعت مجدها الأثيل.

ماذا عنا نحن الآن في جامعاتنا وما السر وراء هذه الهجمة ؟

    صحيح أنه في وضعنا المؤسساتي الجامعي الكثير من التوعك والخلل، والكثير من النزيف الذي لا زال مستمرا، وهي أعطاب قديمة ليست وليدة اللحظة الراهنة، ولا أحد يستطيع إنكار أن ثمة اختلالات بنيوية تتخبط فيها الجامعة إن على مستوى التدبير المؤسساتي وإن على مستوى ما هو بيداغوجي وما هو مرتبط بإنتاج البحث العلمي، وإن كان النهوض بالبحث العلمي قرارا سياسيا في المقام الأول، لكن لمَ يتم اختزال النقاش اليوم في مشكل “الجنس مقابل النقط” في هذه الهجمة الإعلامية الناعمة الأخيرة على الجامعة؟.

إن هذه الهجمة تجعلنا نطرح أكثر من تساؤل: ما الذي يحاك ضد الجامعة؟ هل هو حق أريد به باطل؟ هل هذا الموضوع وليد اليوم حتى يثار هنا والآن بهذا الكم الهائل من الحقد على الجامعة؟ أليس هذا المشكل قديم قدم الجامعة؟ وهل كانت السلطة على غير علم بهذا المشكل؟ ولم يثار الآن تحديدا في هذا السياق؟ أليس الحديث عن الجامعة بهذا القدر الكبير من التسفيه فيه إساءة للقامات الفكرية والنقدية والفلسفية الكبيرة التي خدمت الجامعة المغربية وصنعت نبوغها وتخرجت منها؟ هل هو تغطية عن الفشل البيداغوجي الذريع والمشاريع الأخيرة التي استهلكت الميزانيات الضخمة فيما سمي بنظام الباكالوريوس الذي بدأ التفكير في التراجع عنه؟ هل هذه الهجمة تهيئة سيكولوجية لضربة قانونية جديدة تنذر بالقادم؟ لاسيما وأن وزير التعليم العالي بدأ يتحدث عن قانون أساسي لإصلاح الجامعة والذي سيجهز على الكثير من التقاليد والمكتسبات لا شك، فالإصلاح الحقيقي عندهم كما علمتنا التجارب الإصلاحية السابقة، يختزل في تقليص النفقات لا أقل ولا أكثر، وفي تكثيف استغلال الموارد البشرية الموجودة.

إن استهداف الجامعة هو استهداف للوعي النقدي أساسا، واستهداف للسؤال كآلية من آليات النظر والبحث والكشف والتفكير الذي ينبغي أن يكون امتدادا شعبيا.. فقد علمنا المنطق الحضاري وعلمتنا القوانين التاريخية التي تحكم ظواهرنا التاريخية، أن الجهل كانت ضريبته أقسى من الاستثمار في العلم والوعي والإنسان، وأن استهداف الجامعة هو استهداف للعلوم الإنسانية التي تزعج، فنحن بحاجة للكليات وإصلاحها إصلاحا حقيقيا بعيدا عن استهداف القشور “ولا علم إلا بالكلي” كما يقول أرسطو، كما نحتاج إلى جامعات ومراكز بحث علمية دقيقة وحقيقية تتلقى الدعم الكافي، تنتج علميا، حتى لا نظل نتسول ثقافيا وحضاريا ونأتي بالغرب كله إلينا إلى نهاية التاريخ..

إن الجامعة، رغم كل ما يعتريها من تشويه وتسفيه وممارسات بعيدة عن التقاليد الأخلاقية الجامعية النبيلة، ستظل ذلك الأفق المشرق الذي لا يمكن أن يقودك إلا إلى سفر معرفي جميل، لأن رحاب المدرجات الجامعية لا يمكن إلا أن تفتح آفاقك ووعيك، وتدعوك لاكتشاف نفسك واكتشاف العالم من حولك.

إن الجامعة – لو عقلنا – هي أمننا المعرفي والقومي والحضاري وحصننا الحصين من كل ما يتهددنا من موجات التطرف.. إنها القلب والعقل معا.

لذلك، فإن ضرب الجامعة وتفكيكها، هو تفكيك وضرب لهذا العقل، وهل يمكن لأمة أن ينهض كيانها بدون قلب وعقل؟ لا أعتقد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى