المنبر الحر

المنبر الحر | التطبيع مع دولة إسرائيل بين الممانعين والمجيزين

بقلم: ذ. الحسن العبد

    قال الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، حينما طالب بعدم المساومة والمتاجرة بالمسجد الأقصى، وبالقضية الفلسطينية لتحقيق مكاسب سياسية: “إن تحرير المسجد الأقصى، وتحرير جميع الأرض من حوله من أي احتلال، واجب مقدّس على جميع الأمة، ودَين في رقابها جميعا يلزمهم وفاؤه، وإن لم تواتيهم الظروف وتسعفهم الأقدار، فليس لهم المساومة عليه بحال، وإنما عليهم أن يدعوا الأمر للقدر الإلهي، ليأتي الله بمن يشرفه بالقيام بهذا الواجب”، ولا يسعني إلا أن أؤكد في مقالي هذا، أن هذا الواجب لا محالة حاصل مع أهل الوعد، ومن حق أي مسلم اليوم، أن يتساءل عن الحكم الشرعي لإبرام اتفاقيات سلام أو صلح مع الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين بموجب “وعد بلفور”، قبل أن يأتي وعد الله الذي لا يخلف وعده، بالفتح المبين زمن التمكين لأمة الصادق الوعد الأمين، وعما قاله ويقوله عموم علماء المسلمين في هذا الشأن، فالحقيقة التاريخية التي لا غبار عليها، هي أن إسرائيل دولة مغتصِبة، تم إنشاؤها بعد احتلال أرض فلسطين وتشريد أهلها، وبعد أن بدأ التخطيط له من قبل المنظمة الصهيونية العالمية التي كان يرأسها ثيودور هيرتزل، والتي تم انعقاد مؤتمرها الأول في بال بسويسرا سنة 1897، وهو المؤتمر الذي تم الإقرار فيه على إنشاء هذه الدولة، حيث تم وضع الخطة لتحقيق هذا الاحتلال، أي أن هذه الدولة لم تكن قائمة، وإنما تم غرسها في الوطن العربي عنوة وبقوة السلاح، وبالظلم واغتصاب الحقوق، ويقول أحد الباحثين: “لقد كان البدء بتنفيذ هذا المخطط من خلال تنظيم رحلات هجرة لليهود من مختلف دول العالم إلى أرض فلسطين مستغلة ضعف الدولة العثمانية، فكانت هناك موجة أولى من المهاجرين فيما بين عامي 1882 و1903، والتي يتراوح عدد من هاجر فيها ما بين 25 و30 ألف مهاجر، ثم جاءت الموجة الثانية (1904-1914)، وتراوح عدد من هاجر فيها بين 35 و40 ألف مهاجر، وفي عام 1914 بلغ عدد المستوطنات على أرض فلسطين حوالي 95 مستوطنة يسكنها حوالي 12 ألف نسمة، بالإضافة إلى حوالي 70 يهوديا يسكنون في المدن المختلفة من أرض فلسطين، وعندما بدأ الاستعمار البريطاني لأرض فلسطين في عام 1917، صدر وعد بلفور، الذي كشف عن حقيقة التحالف بين كل من الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية لخدمة مصالحها وأهدافها المشتركة، وهو الأمر الذي كان يبيت النية لإقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين”.

وبكل تأكيد لم يقبل الفلسطينيون ومعهم كل العرب والمسلمين وأحرار العالم بكل البقاع، بهذا المخطط، ولم يستسلم الشعب الفلسطيني له بعد أن أدرك حقيقة ازدياد عدد المهاجرين اليهود إلى هذه الأرض المباركة، ويؤكد جل المهتمين بالقضية الفلسطينية أن ما يقال من أن الفلسطيني قد باع أرضه وتنازل عنها، وأكل ثمنها برضاه، ما هو إلا محض افتراء وتزييف وتزوير للحقائق، ويذهبون إلى القول بأن التاريخ يثبت أنه ما كان من الفلسطينيين إلا أن قاوموا الاحتلال البريطاني لأرضهم، ومن ثم حاربوا ضد قيام دولة إسرائيل، فكانت “انتفاضة النبي موسى” في القدس عام 1920، ثم انتفاضة يافا عام 1921، ثم ثورة “البراق” عام 1929، ثم ثورة “الكف الأخضر” عام 1929 و1930، ثم انتفاضة أكتوبر 1933، ومن ثم جاءت الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939)، وعندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 181 سنة 1947، الذي يقر بتقسيم أرض فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية، قوبل هذا القرار بالرفض والاستهجان من قبل الفلسطينيين، وكذلك من بقية الشعوب العربية والإسلامية، الأمر الذي دفع الدول العربية لبدء مرحلة الحرب مع اليهود، فكانت حرب 1948، ثم حرب 1956، ثم حرب 1967، وأخيرا حرب 1973.

لكن وللأسف الشديد، مع اتفاقية “كامب ديفيد” عام 1978، ظهر تغير ملحوظ ومفاجئ في سياسة حكومات الدول العربية والإسلامية تجاه المحتل الإسرائيلي، من التصدي والمواجهة إلى الخذلان والخيبة، ولم يتوقف الحال عند هذه الاتفاقية، بل انجرت وراءها بعض الدول العربية، فتم إبرام اتفاق “أوسلو” بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993، وكذلك اتفاقية “وادي عربة” 1994 مع الأردن، وتبع ذلك أيضا قيام اتفاقيات مشابهة مع دول عربية أخرى مثل تونس والمغرب وموريتانيا، وها نحن نتابع اليوم اتفاقيات تلو الأخرى مشابهة تبرم مع الكيان الصهيوني، “وعلى عينيك يا ابن عدي”، وأكيد أن دولا عربية أخرى ستحذو حذو شقيقاتها قريبا في زمن الغثائية..

فما هو يا ترى الحكم الشرعي لهذه الاتفاقيات بألسن العلماء؟

يقول أحدهم: “إن سلّمنا بوجود آراء لعلماء معاصرين معتبرين ومن أهل الفتوى، يقولون بجواز إبرام اتفاقيات مع الكيان الإسرائيلي، فإننا سنجدها في مجملها تعتمد على فتوى للشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، في حين أن جمهور العلماء يقولون بالتحريم، ولذلك سنسلم بأن هناك رأيين في المسألة، رأي للممانعين، ورأي للمجيزين. ففيما يخص الرأي الأول، فقد صدرت المئات من الفتاوى القائلة بعدم جواز إجراء معاهدات سلام مع إسرائيل، ولا بأي شكل من أشكال التسوية السلمية، أو التنازل لهم عن أي قطعة أو جزء من أرض فلسطين، أو أي أرض أخرى من أراضي المسلمين، وصدرت هذه الفتاوى منذ إعلان قرار الأمم المتحدة إنشاء الكيان الإسرائيلي، وترجع هذه الفتاوى إلى عدد كبير من علماء الأمة الإسلامية وفقهائها ومفكريها، وكانت في أغلبها تصدر في مؤتمرات دولية إسلامية، وبعضها يصدر بشكل فردي، ومن هذه الفتاوى، فتوى علماء فلسطين، الصادرة عن مؤتمر علماء فلسطين الأول المنعقد في يناير 1935، وكذلك فتوى جامع الأزهر في اجتماع لجنته المنعقد في عام 1956، ثم انعقد مؤتمر إسلامي دولي سنة 1989، حضره علماء الأمة الإسلامية من أكثر من 19 دولة إسلامية، وبهذا يمكن القول أنه حصل الإجماع من قبل جمهور العلماء المعاصرين على حرمة إبرام اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وعلى حرمة بيع أي قطعة أرض فلسطينية لليهود، وتحريم السمسرة على هذا البيع والتوسط فيه وتسهيل أمره بأي شكل من الأشكال، واعتبروا أن الاعتراف بدولة إسرائيل خيانة لله والرسول والأمانة ولكل المسلمين، وعلى ذلك، فإن أرض فلسطين أرض إسلامية وستبقى إسلامية، وعما قريب، وبرشد إن شاء الله، القدس عاصمة المسلمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى