المنبر الحر | التدريس باللغة الفرنسية.. خيار أم إجبار ؟
بقلم: بوشعيب حمراوي
يعيش تلاميذ وأساتذة المواد العلمية بالثانويات الإعدادية والتأهيلية مخاضا عسيرا، بعد قرار الوزارة الوصية القاضي بالعودة التدريجية إلى تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية، بسبب عدم تمكن التلاميذ من التواصل باللغة الفرنسية بشكل جيد، وتواجد مجموعة من مدرسي المواد العلمية “المعربين”، رغم أن هذا القرار لازال اختياريا في بدايته، حيث يسمح للتلاميذ حسب قدراتهم التواصلية بالتدريس وفق الخيار الفرنسي الجديد (المسار الدولي)، أو الخيار العربي القديم، إلا هناك مجموعة من الثانويات وحتى بعض المديريات الإقليمية، تجاوزت ما أوصت به وزارة التعليم، وفرضت المسار الدولي على كل التلاميذ، مما تسبب في اضطرابات مختلفة لدى التلاميذ وإصابة بعضهم بأزمات نفسية، كما رفض البعض متابعة دراستهم.
ورغم مبادرات الوزارة الوصية، من أجل اختبار وتكوين الأساتذة وإعدادهم لتدريس المواد العلمية بالفرنسية، فإن أكبر إشكالية باتت مطروحة على المدرسين، هي كيفية التواصل من أجل إيصال المفاهيم العلمية ومناقشتها وضمان استيعاب الدروس العلمية، علما أن معظم التلاميذ لا يدركون حتى أبجديات اللغة الفرنسية، مما يفرض على الأساتذة تقديم الشروحات باللغة العربية أو اللهجة العامية الخاصة بكل منطقة.
أزمة اللغة الفرنسية التي أريد لها أن تكون لغة العلم والإدارة والاستثمار ببلادنا، تعود للواجهة مع كل موسم جامعي، إذ يخيم اليأس والإحباط على الحاصلين على شهادات الباكالوريا الوطنية بكل أصنافها المعربة، بسبب تلقيهم برامج تعليمية باللغة العربية، وعدم قدرتهم على متابعة وتحصيل البرامج التعليمية والتكوينية الجامعية باللغات الأجنبية، وفي مقدمتها الفرنسية المفروضة على الإدارة المغربية منذ فجر الاستقلال، بل إنهم يجدون صعوبات في اجتياز المباريات الكتابية والشفهية، لولوج بعض المعاهد والكليات، يضاف إليها عجزهم الثقافي وعدم قدرتهم على مجابهة الحياة بكل متطلباتها.
فكيف لطالب أن يجتاز مباراة جميع موادها باللغة الفرنسية وقد تعلم دروس تلك المواد باللغة العربية؟ كيف له أن يتابع التحصيل الجامعي لمواد علمية وأدبية بالفرنسية لم يختبره أحد في مجال تخصصه العلمي بقدر ما تم اختباره في مدى استيعابه وقدرته على التواصل بلغات لم تكن من قبل أداة لتحصيله العلمي والثقافي؟
بحرقة ومرارة يلقي الطلبة التعساء بهذه التساؤلات التي ظلت وستظل حبيسة صدورهم، تخالجهم كلما سئلوا عن مسار دراساتهم الجامعية ومدى استعداداتهم وتجاوبهم مع برامجها الدراسية الجارية.
فجأة، يدرك الطالب أنه لا يمتلك لغات التواصل المطلوبة في سوق الشغل، ولا يمتلك الحس الثقافي والاجتماعي والبيئي والحقوقي، الواجب أن تكون مبادئهم مرسخة عبر مراحل في أذهانهم.
فرحة الفقير أو القروي الحاصل على شهادة الباكالوريا بميزة حسن أو حسن جدا، والذي عاش أسبوعا من الاحتفالات وسط أقاربه وجيرانه بحومته أو قريته الصغيرة، لم تدم طويلا، إذ كان عليه مواجهة إعصار المباريات والانتقاءات بما لديه من خزان معرفي تنقصه أهم وأبرز أداة للتواصل، وهي اللغات (الفرنسية، الإنجليزية…)، وكذا التعلم والتكوين بها، فاللغة الأم التي مكنته من معارف علمية وثقافية، أريدَ لها أن تنتهي صلاحيتها بمجرد توصله بدبلوم الباكالوريا، وعليه التسلح بلغات أخرى للدخول في المنافسة والتمكن من أجل ولوج المعاهد والكليات بدون حرج أو نقص، في الوقت الذي تمكنت فيه فئات طلابية أخرى دون مستواهم العلمي، من ولوج تلك المعاهد ومتابعة دراساتها وتكويناتها، معتمدة على لغتي التواصل المطلوبتين.
التعريب أحدث ازدواجية في التعليم، وخللا في المنظومة التعليمية، وجعل اللغة الفرنسية مرادفا للنجاح والتألق، بدلا من الكفاءة والذكاء، وقد عدنا الآن لسلك نفس المسار بعد أن صنفنا تلامذتنا وفق الخيارين: فرنسي (دولي) أو عربي. انتبهت الوزارة الوصية إلى العقبة التي أحدثتها إشكالية التعريب، بعد أن عجزت طيلة عقود عن تعريب التعليم الجامعي، فعمدت في وقت سابق إلى تكوين مدرسين لمادة الترجمة، مهمتهم تلقين التلاميذ بالثانوي التأهيلي المصطلحات والمواضيع العلمية والتقنية بالفرنسية، لكن العملية تعثرت، لتعود لاتخاذ قرار العودة إلى التدريس باللغة الفرنسية بالتعليم الثانوي.
هذا، ويبقى أولياء أمور التلاميذ يستفسرون عن سبب عدم تمكن أبنائهم وبناتهم من استيعاب مواد الفرنسية والإنجليزية والإسبانية، علما أنهم يقضون السنوات الطوال يدرسون تلك اللغات، أسئلة كثيرة حيرت الآباء الذين يرون أن مطرودين من الدراسة ومعهم شيوخ وأميون حظوا بالإقامة المؤقتة ببلدان أوروبية وأمريكية، عادوا وألسنتهم تنسج الكلمات والجمل بلغات تلك البلدان، بينما أبنائهم وبناتهم بالمغرب درسوا عدة سنوات تلك اللغات وعجزوا عن تعلمها؟
أمام هذه المعضلة، ارتفعت بعض الأصوات مجددا تطالب بإلغاء التعريب بصفة نهائية، وهي الأصوات التي كانت تنتظرها تلك الجهات التي أضرت باللغة العربية وسوقتها كلغة لا تصلح للتواصل العلمي والتكنولوجي.
فرضت الحماية الفرنسية اللغة الفرنسية داخل المؤسسات التعليمية والإدارات العمومية والخاصة بالمغرب، وظلت ثابتة بعد الاستقلال، ومنحت لها الشرعية والاستمرار في ميدان التعليم والتربية وتكوين الأطر، واستطاعت فرنسا بفضل تلاميذها الذين كونتهم، وعملائها الذين احتضنتهم، من اختراق نظام التربية والتعليم، وانتهاج سياسة تعليمية هدفها محو اللغة العربية وكل ما تجر وراءها من عقيدة إسلامية وتراث وتقاليد مغربية أصيلة، ولم تتمكن كل الحكومات التي تعاقبت على تسيير البلاد المستقلة من إحداث تعليم وطني إسلامي مستقل، رغم ما سبق وأعلن عنه من المبادئ الأربعة خلال أول لقاء عقدته اللجنة الملكية لإصلاح التعليم بتاريخ 28/9/1997، وهي: التعريب، التعميم، التوحيد، والمغربة، ليظل العقل الفرنسي راسخا في أذهان المغاربة يسيطر على أدمغتهم التي تعتبره القائد والقدوة في كل مجالات الحداثة، ويصبح المغاربة تائهين لا هم قادرون على المشي ولا على القفز، ويقبلون بعودة لغة بات العالم ينفثها.