المنبر الحر | المغرب والجزائر ومبدأ المعاملة بالمثل
بقلم: حسوني قدور بن موسى
محامي بهيأة وجدة
يحتل مبدأ المعاملة بالمثل (principe de réciprocité) مكانة مهمة في القانون الدولي، ويقوم في الأساس على فكرة المساواة القانونية بين أشخاص القانون الدولي مع ما يكتنف تطبيقه فعليا من صعوبات، نظرا للاختلاف الكبير بين الدول من حيث التقدم والرقي والقوة والاستقرار السياسي والديمقراطية ووطأة التخلف والضعف الاقتصادي والمؤسساتي وانتشار الفساد، مما يجعل تطبيق هذا المبدأ مستحيلا بالنسبة للدول الضعيفة التي لا تقدر على المواجهة الند للند.
ويعتبر مبدأ المعاملة بالمثل أداة توازن بين أطراف العلاقات القانونية الدولية، باعتباره يهدف إلى إقامة علاقة بين الحقوق والالتزامات، أي المحافظة على التوازن الواجب تقريره بين أشخاص القانون الدولي، ويشير المفهوم العام للمعاملة بالمثل في إطار القانون الدولي، إلى التصرف الذي يستجيب به الشخص الدولي بحسب ما يتعرض له من معاملات، ويعني مقابلة الخير بالخير والشر بالشر، وهو أن تلجأ الدولة إلى اتخاذ تدابير قهرية تقع بالمخالفة للقواعد العادية للقانون الدولي، بهدف إجبار الدولة المعتدية على احترام القانون، وتعويض الدولة التي وقع الاعتداء عليها عما لحق بها من أضرار مادية ومعنوية، وفي هذا الصدد، يجب التذكير بسكوت المغرب وعدم رده عن طرد آلاف المغاربة المقيمين في الجزائر، في 18 دجنبر 1975 واليوم يوم عيد الأضحى، دون اتخاذ أي إجراء مماثل، وكان عدد المغاربة المطرودين يساوي العدد الذي حركه المغرب في المسيرة التي أطلق عليها الملك الراحل الحسن الثاني “المسيرة الخضراء”، وفي المقابل أطلق عليها هواري بومدين اسم “المسيرة الكحلة”، ومما لا شك فيه أن هذا التصرف يعتبر مساسا خطيرا بسيادة المغرب، هذا بالإضافة إلى ما ينتج عنه من مشاكل اقتصادية واجتماعية خطيرة، وهذا معناه أن الدولة المغربية أصبحت ملزمة بتوفير 350000 خبزة لهؤلاء المطرودين، الأمر الذي كلف ميزانية الدولة نفقات هائلة، وهذا ما كانت الجزائر ترغب فيه، وكذلك سكوت المغرب عن اعتراف الجزائر بجبهة البوليساريو، حيث ساندتها سياسيا وعسكريا وإعلاميا، ورغم جسامة الاعتداء على المغاربة المقيمين في الجزائر والطرد الجماعي الذي تعرضوا له ومصادرة منازلهم وأمتعتهم وممتلكاتهم، لم يطبق المغرب مبدأ المعاملة بالمثل، وعندما يتعلق الأمر بالسيادة الوطنية وإهانة كرامة المواطنين، فلا مجال في هذه الحالة إلى اعتبار الأخوة والجوار، وهناك حالات مماثلة يظهر فيها المغرب بلدا ضعيفا لا يرد بالمثل على المعاملات الدولية الضارة بمصالح المواطنين، وأبرز مثال على ذلك فرض تأشيرة الدخول (الفيزا) من طرف فرنسا وباقي دول الاتحاد الأوروبي، على المواطنين المغاربة دون اعتبار لما يقدمه المغرب من تسهيلات للرعايا الأوروبيين في المجال الاقتصادي والسياحي، حيث تكلف إجراءات “الفيزا” مصاريف مالية لا تطاق، هذا فضلا عن المس بالكرامة والإهانة والذل الذي يتعرض له المغاربة الذين يتقدمون بطلب “الفيزا” من جراء رفض التأشيرة بدون إعطاء أي سبب، ولا تقبل منهم شكاية ولا احتجاج، ولا ترد لهم المصاريف التي دفعوها، في حين يدخل الفرنسيون وغيرهم إلى التراب المغربي دون قيود ولا شروط، لكن الجزائر ردت بالمثل على فرنسا وفرضت “الفيزا” على الفرنسيين، لأنهم ليسوا أفضل من جميع البشر.. هنا تظهر قوة الدولة ومدى حرصها على كرامة وعزة مواطنيها في الداخل والخارج.
المعاملة بالمثل مبدأ معترف به للدولة المعتدى عليها، ويعني أن ترد عليه باعتداء مماثل بهدف إجبار الدولة المعتدية على احترام القانون وعلى تعويض الضرر المترتب على مخالفته.
ويزخر تراثنا الشعبي العربي بالعديد من العبارات والأمثال التي تقال في معرض التعبيرعن ضرورة الالتزام بمبدأ المعاملة بالمثل وتطبيقه، فمن ذلك القول مثلا: “من جعلك حمارا اجعله بعرة”، أي من اعتبرك حمارا اعتبره بعرة، والبعرة أحقر من الحمار.
المعاملة بالمثل منصوص عليها كذلك في القرآن الكريم كما جاء في قوله تعالى: ((وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)) (سورة النحل الآية 126).
فمبدأ المعاملة بالمثل في العلاقات السياسية والتعامل الدبلوماسي بين مختلف الدول والكيانات، أو من يمثلونها، هو ذلك المبدأ الذي يُفترض بمقتضاه أن يعامل كل طرف الطرف الآخر بنفس الطريقة التي يتعامل هذا الآخر بها معه، ذلك أن السلوك الدبلوماسي، وخصوصا في مجاله المراسيمي أو الاحتفائي بالتحديد، هو في نهاية المطاف شكل من أشكال التعبير الرمزي القابل للتفسير لجهة مع ما ينطوي عليه من احترام وتقدير واعتبار من جهة، أو احتقار وإذلال واستخفاف واستهانة من جهة أخرى، ولا شك في أن مبدأ المعاملة بالمثل له علاقة وطيدة بجملة من القيم والمبادئ الإنسانية العامة اللطيفة التي تنظم جميع الثقافات والمجتمعات الإنسانية تقريبا، وذلك من قبيل الحرص على احترام الذات، والإحساس بالمساواة بين البشر من حيث محض الآدمية والاستعداد لصون كرامة النفس وعزتها، والثأر ممن يسعى عمدا لامتهان واحتقار تلك العزة والكرامة، وبالمقابل الميل إلى التعبيرعن الشكر والعرفان والوفاء، ورد الجميل بالجميل، ومقابلة الاحترام والتقدير بمثلهما إلى آخر ذلك من أوجه التعبير عن الرضى أو الرفض.
ورغم مخاطر مبدأ المعاملة بالمثل، فقد اعترفت المحاكم العسكرية (محاكمات نورمبرغ وطوكيو) بمشروعيته، كما أن الواقع يشير إلى أنه يمكن استخلاصه وتبريره من خلال عدم المعاقبة على الأفعال التي تقع ضمن الحدود المعترف بها دوليا.
الوطن هو الشعور بالانتماء والدفء والإحساس بالكرامة، يعيش الإنسان كفيفا مرفوع الرأس وبكرامة أفضل من أن يعيش مبصرا مكسور الكرامة، لأن الإنسان لا يرث الكرامة ولا المهانة، بل يصنعها بنفسه.