المنبر الحر | ((كن ابن من شئت واكتسب أدبا.. يغنيك محموده عن النسب))
بقلم: الحسن العبد
قال عز من قائل: ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)) (سورة البقرة الآية 34)، أبى فعصى الله باستكباره فكان فيها حقيرا مذموما من الصاغرين، ومنا من يتحلى بهذا الخلق الذميم، فيستكبر عن غيره من الخلق بنسبه وحسبه وجاهه وماله… إلخ، ويستحق بذلك غضب الله ومقته – والعياذ بالله – بحيث تجد ظاهرة عالمية في كل بقاع الأرض لا تخص فقط بلدا معينا أو جهة من الجهات، بل هي جد عامة لدى الكثير من الناس، هداهم الله، ألا وهو النسب لغير الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تأملوا معي هذه المقولة الحكيمة لصحابي جليل: ((أنا ابن الإسلام))، كان الوقت ضحى، وقد جلس بعض المسلمين في مسجد النبي صلى الله وسلم، ينتظرون أذان الصلاة ليؤدوا فريضة الظهر، فدخل سلمان الفارسي المسجد وسلم على إخوانه من المؤمنين. أرادوا أن يعرفوا نسب هذا الرجل الفارسي، فتحدثوا مع بعضهم البعض بصوت يسمعه سلمان، وقال أحدهم: “أنا من قبيلة تميم”، وقال آخر” أنا من قريش”، وقال ثالث: “أما أنا فمن الأوس”، وهكذا، بينما ظل سلمان ساكتا، فأرادوا أن يعرفوا نسبه، فقالوا: “وأنت يا سلمان، ما هو نسبك وحسبك؟”، فأجاب ليعلمهم معنى الإيمان: “أنا ابن الإسلام، كنت ضالا فهداني الله بمحمد، وكنت فقيرا فأغناني الله بمحمد، وكنت مملوكا فأعتقني الله بمحمد، فهذا حسبي ونسبي”، فسكت الرجال وقد تعلموا درسا من دروس الإحسان والإيمان والإسلام.
قال سبحانه في محكم تنزيله: ((فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)) (سورة المؤمنون الآية 101).
في بعض جهات المملكة – وللأسف الشديد – تجد أقواما يتعصبون لانتمائهم لبعض العائلات المميزة، ويسألونك: “ابن من أنت؟”، وتجد بعض القبائل يرددون: “احنا أغراس أغراس”، ولدى آخرين: “ريافة رجال”، و”صحراوة المعقول” و”العروبية الشهامة والنخوة” وووِ…
جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ((قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلّ، وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ، قَالَ : “يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ – أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا – اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)) رواه البخاري (2753) ومسلم (206).
يقول علماؤنا الفضلاء: ((أشقى النَّاسِ من جَمَعَ مالاً وكانَ له جاهُ وسِيادَةٌ ورِيادَةٌ، ولكنَّ وَلَدَهُ ليسَ كما يَتَمَنَّاهُ، لأنَّ قُرَّةَ العينِ لا تَكونُ بِعَرَضٍ من أعراضِ الدُّنيا، بل تكونُ بالذُّرِّيَّةِ الصَّالِحَة التي تُدخِلُ على القَلبِ الفَرحَةَ والسُّرورَ))، وقال تعالى حِكايَةً عن عِبادِ الرَّحمنِ: ((وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاما)).. فكم هي فرحة الوالِدَينِ بالوَلَدِ الصَّالِحِ الذي يَخافُ اللهَ تعالى ربَّ العالَمينَ، الذي يَقرأُ القُرآنَ العَظيمَ ويَحفَظُهُ، الذي يُصَلِّي ويَصومُ ويأكُلُ الحَلالَ، الذي سُمعَتُهُ طَيِّبَةٌ يُثني النَّاسُ عَلَيهِ خَيراً، الذي يُشارُ إليهِ بالبَنانِ بأنَّهُ من أهلِ التَّقوى والصَّلاحِ والإصلاحِ والسِّيرَةِ العَطِرَةِ))، ولذلك، فمن أرادَ أن تَكونَ ذُرِّيَّتُهُ قُرَّةَ عَينٍ لهُ، فَعَليهِ أن يُرَبِّيَها تَربِيَةً صالِحَةً من خِلالِ قَولِ الله عزَّ وجلَّ: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاظٌ شِدَاد لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون))، ومن خِلالِ قَولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)) وعَدَّ منها: ((وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))، فالاهتمام بِتَربِيَةِ الوَلَدِ من حيثُ عَقيدَتُهُ وعِبادَتُهُ وأخلاقُهُ وسُلوكُهُ كاهتِمامِكَ بِدِراسَتِهِ، اِهتَمَّ بهِ أن تَكونَ له مَكانَةٌ عِندَ الله عزَّ وجلَّ كاهتِمامِكَ بِمَكانَتِهِ عِندَ الخَلقِ، ولا تَقتَصِر على تَربِيَتِهِ الدُّنيَوِيَّةِ.
حَطَّمَ مِيزانَ التَّفاخُرِ بالنَّسَبِ دونَ العَمَلِ، يقول الفضلاء: أدِّبوا أبناءَكُم على تَحطيمِ مِيزانِ التَّفاخُرِ بالنَّسَبِ دونَ العَمَلِ، أدِّبوهُمُ على أنَّ مِيزانَ التَّفاخُرِ هوَ تَقوى الله عزَّ وجلَّ، أدِّبوهُم على قَولِ الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِير)).
أدِّبوهُم على أنَّ النَّسَبَ دونَ العَمَلِ لا يُغني يومَ القِيامَةِ عن الفاجِرِ شيئاً، قال تعالى: ((فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُون))..
أدِّبوهُم على تَوجيهِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القائِلِ: ((لَيَدَعَنَّ ـ لَيَترُكَنَّ ـ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى الله مِن الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتْنَ ـ دُوَيْبَةٌ سَوْدَاءُ تُدِيرُ الْغَائِطَ بأنفِها)) رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
أدِّبوهُم على أنَّ أكرَمَ النَّاسِ هوَ أتقاهُم لله عزَّ وجلَّ، روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ، قال: يَا رَسُولَ الله، مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَتْقَاهُمْ، فَقَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: فَيُوسُفُ نَبِيُّ الله، ابْنُ نَبِيِّ الله، ابْنِ نَبِيِّ الله، ابْنِ خَلِيلِ الله، قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا))
ربُّنا عزَّ وجلَّ جَعَلَ نَسَباً، فقال: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ))، فمن رَفَعَ نَسَبَ الله تعالى في الحَياةِ الدُّنيا رَفَعَهُ اللهُ تعالى، ومن وَضَعَ نَسَبَ الله تعالى ورَفَعَ نَسَبَهُ في الحَياةِ الدُّنيا، وَضَعَ اللهُ تعالى نَسَبَهُ يومَ القِيامَةِ.
ولله ذر الشاعر في قوله:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا