تحليلات أسبوعية

بين السطور | من جاور الحدّاد يكتوي بناره

بقلم: الطيب العلوي

    تحكي رواية شعبية لدى العرب، أنه بالقرب من بيت واحد من الأعيان، يُدعى أبا دفّ، كان يقطن رجل ضاق به الحال، واشتدت عليه الحاجة، بعد أن استدان مبالغ مالية هامّة لم يقوَ على سدادها(…)، فقرر بيع البيت الذي سكنه لأزيد من عشرين عاما، غير أن ثمن البيع الذي يطلب لا يتناسب مع قيمة الدار، حيث أن السعر الذي عرضه كان ضعف الثمن الحقيقي، وبذلك لم يُقْبل أحد على الشراء طبعا.. فنصحه أقاربه بأن يخفض الثمن الذي يطلب حتى تتوافد عليه طلبات الشراء، لكنه أبى أن يفعل.

ولمَّا علِم أبا دفّ بالأمر، سأله عن سبب مضاعفته للقيمة الأصلية للبيت، وما إذا كانت فيه ميزات تبرر تلك النقود المضافة، فأجابه الجار: “إنني أبيع الدار بخمسمائة، والجيران بخمسمائة، فعندما اشتريت الدار قبل عشرين عامًا، لم أفكر إلا في الجيرة الطيبة، حتى بعد زواج أبنائي، لم أفكر في بيع الدار بسبب الصداقة والعشرة التي جمعتني بجيراني، ولكن حاجتي غلبت رغبتي.. ولذا أبيع الدار بألف”.

وفور سماع أبا دفّ بهذا الكلام، قرر أن يجنِّب جاره بيع المنزل، بتقديم المساعدة المادية الكافية قصد تسديد ديون هذا الرجل الذي أحَبه وثمَّنَه بثمن الدار(…)، ومن هنا جاءتنا مقولة: “اختار الجار قبل الدار”.

وإذا ما انغمسنا في مقاربة نقط التقاء الماضي والحاضر عبر هذا المثل، الذي يعد واحدا من المخطوطات المسجِلة لمواقف البسطاء(…)، والمدوِّنة لأحوالهم بتعابير لا تُنسى(…)، سرعان ما ستتضح لنا كثير من الاختلافات، مقارنة مع ما صرنا نعيشه اليوم.

أما فيما يخصنا، وما يربطنا بحكمة الجار، خصوصا وأننا لم نختر جيراننا، بل فقط وكما عبر عن ذلك الحسن الثاني في إحدى مداخلاته، “حشرنا الله بجانبهم”، فأولا والحمد لله، المغرب يبقى وضعه على العموم يميل إلى الاستقرار رغم كل شيء(…)، والجهود المبذولة التي اطلعنا عليها من خلال تقرير النموذج التنموي الذي تم تقديمه للملك هذا الأسبوع، تؤكد للجيران أن المغرب ليس للبيع(…)، وإذا كان أحدهم سيضطر قريبا لعرض نفسه في المزاد العلني، بحكم إفلاس اقتصادي وشيك(…)، فلنذكر باقي الوافدين على العرض المقبل، أن مجاورة المغرب قد ترفع، انطلاقا من حكمة الجار، من رسوم التوثيق(…).

لتبقى إشكالات الأيام الأخيرة التي يتعايش معها المغرب، والتي لا داعي لذكرها مرّة أخرى “ما فيها ما يتعاود”، حيث اكتست شكل حلقة مفرغة، بدأت حزازاتها تسود على نطاق أوسع مما نتصور(…)، وعواقبها ستدوم على مدى أبعد مما نعتقد(…)، من أحداث “يوم النزوح الكبير” نحو سبتة، التي ذكرتنا بأحداث “ليلة الهروب الكبير” في السنة الماضية، والله وحده يعلم من أين جاءتنا هاته القوة الجديدة في التنسيق، والسرعة في التطبيق(…)، والتي من اللازم التحقيق في جذورها هذه المرّة(…)، بالالتفات، بلا شك، إلى ما يقع في الشبكة العنكبوتية التي بدأ ينطلق منها التخطيط بشكل منتظم لهذا النوع من المشاريع، لأن 8000 شخص.. “ما يجمعها غير الفُم”.

هذا “النزوح الكبير”، وبغض النظر عن مسلسل “بنبطوش” الذي طالت حلقاته(…)، لم يكن للأسف ملائما، لا من حيث الزمان ولا من حيث المكان، فبعد أن عرقل الصِلات مع المملكة الإيبيرية أكثر مما هي عليه(…)، لم تتوقف حُمّاه عند الثلوج التي أوقفت جيوش الأندلس، حيث تخطت الحماوة جبال الألب ووصلت إلى باريس، التي رأت في الأمر تراخيا في المراقبة الحدودية، ومن تم خطرا “تحفيزيا” لحزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، في بلد على أبواب انتخابات رئاسية، وبما أن أيامنا صارت بعيدة كل البعد عن زمان أبا دفّ، وأصبحنا في زمان “كُلَّ ينش على كبالتو”، فالأمر كلف المغرب، الأسبوع الماضي، عموداً ناريا عبر صفحات “لوموند” الفرنسية، التي أصبح المهتمون(…) قادرين على فك شيفرة كل حرف فيها بشكل مقصود(…).

يجب على الجميع أن يعلم من كل هذا، أن إسبانيا حاليا في ورطة مع الاتحاد الأوروبي، أكثر مما هو عليه الحال مع المغرب، هذا الاتحاد الذي أصبح يبدو يوما بعد يوم، بمثابة “الرصاصة الأخيرة” الحاملة لبصيص أمل في تنسيق حكيم وعادل بين جيرانه، لأنه وكما يقول مثل آخر من زمان أبا دفّ: “من جاور الحدّاد اكتوى بناره”.. خصوصا وأن روايات العرب القديمة، حافظت على تفرّدها عبر السنين والقرون، مما أعطاها قوة الوقع في النفوس(…)، بينما رواياتنا في الحاضر بدأت تختلف وتتنازع سيناريوهاتها، مع مرور الدقائق والساعات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى