المنبر الحر

المنبر الحر | مّالين الحوانت.. فسيفساء المجتمع

  بقلم: الطيب آيت أباه

    في قصة من نفائس تراثنا الشفاهي، مضمونها عبرة بليغة، كان الوالد رحمة الله عليه يكررها على مسامعنا، تحكي أن أسرة فقيرة كانت تعيش على الكفاف والعفاف في قرية ضرب الجفاف فلاحتها، حتى بلغ العوز بالناس أقسى مستوياته، ليقرر رب الأسرة الرحيل، بعدما ساءت أوضاع المكان، وفرغت الخوابي من الزاد والمُؤَن، فشرعت الأسرة في جمع مستلزمات الهجرة دون تحديد الوجهة، وبينما هم منشغلون بترتيبات السير في أرض الله الواسعة، اخترق سكينة الليل آذان صلاة الفجر، فقصد رب الأسرة الحمام للوضوء، ثم توجه صوب المسجد بغاية الصلاة، وتوديع أهل القرية، ولما دنا من بيت الله، سمع الناس أثناء الحديث عن أحوالهم مع الجفاف، وقد ذكروا اسمه، فتسمّر في مكانه لبرهة من الزمن، يستوضح مغزى الكلام، وقد جاء في جملة ما قالوا في حقه، أن الرجل صار ملاذهم الأخير، من أجل مد يد العون والمساعدة، لكونه وعلى مدى مقامه بينهم، لم يسبق له إطلاقا أن اشتكى من معسرة، مما جعلهم يحسبونه في ميسرة، أو على أقل تقدير، هو خارج دائرة الضيق الذي ألمّ بهم.

ومباشرة بعد ذلك، التحق الرجل بالمصلين، وآزرهم بصبره وقوة تحمله للالتفاف حول المصاب الجلل، وبادلهم المواساة بعزيمة وثبات، ما جعله يقرر عدم الرحيل مقتنعا بالمكوث بين أهل القرية إلى أن يجعل الله لهم من الضنك مخرجا، فليس سواه الرزاق ذو القوة المتين، فعاد الرجل إلى بيته مسرورا برفعة المنزلة وقد اكتشف للتو، ومن حيث لم يكن يحتسب، أنه الأجدر بها في قريته، ليزف إلى زوجته بشرى على قدر عظيم من العرفان، استقبلتها شريكة العمر والتضحية بكثير من الارتياح، فمهما بذلا من جهد في مكان آخر، فلن ينالا أبدا مثل هكذا تشريف، منتهى العار هدره، وما كانا ببالغيه لولا ما صرفاه من صبر وقناعة على طول سنين مضت.

هكذا هي فصيلة مّالين الحوانت، جنس من البشر الصبور والمكافح، اشتغلوا بكد وصبر حتى نحتوا لهم مكانة اعتبارية في المجتمع، صارت أو كادت أن تبدو كفسيفساء زاهية في تعاضد رونقها، متينة في تلاحمها، لا يرجى أخذا بالتصاميم صونها، فقط ترميما في حجم ترميم البنيان المهجور، بقدر ما تحتاج من عمق الصميم إلى عرفان يوقظ الهمم، ويغني عن نزوح وهجرة بلا ملامح محددة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى