المنبر الحر

قصة جائحة “كورونا” التي غيرت وجهة الحياة في العالم

وباء القرن 21

تغير هائل أصاب حياة الناس بسبب جائحة “كورونا” في كل أنحاء العالم ألزم ملايين الناس بيوتهم، فتغيرت عاداتهم اليومية، وتوقفت مواعيدهم الثقافية وتجمعاتهم الدينية في المساجد والمعابد والبيعات.
فهل تكون “كورونا” بمثابة وقفة استراحة من وتيرة الحياة التي ألفها الناس، يعيدون فيها تفكيرهم في أمور كثيرة تتعلق بأوضاعهم الخاصة، بما في ذلك الأسرة والحياة والصحة والنظافة والموت، وغير ذلك؟
فمن المؤكد أن وباء “كورونا” الذي أوقف الروتين اليومي لملايين الناس حول العالم، ربما من أجل تغيير في الحياة ورؤية الناس لهذا التغيير العام.

بقلم: د. عبد الرحيم بن سلامة *

بداية جائحة “كورونا” كانت من الصين

    ترجح الكثير من الدراسات، أن وباء “كورونا” ظهر في الصين خلال شهر دجنبر 2019، حيث شعرت السيدة “وي” بائعة السمك في سوق مدينة ووهان بالصين، ببعض الإرهاق وبأعراض داء الأنفلونزا الذي اعتادته كل عام، فأخذت تنشد العلاج، وذهبت إلى عيادة صغيرة لتعود بعدها إلى العمل وكأن شيئا لم يكن، ولم تكن تعلم تلك السيدة ما تخبئ الأقدار، وقد حصلت على بعض الأدوية لمقاومة الأنفلونزا كعادتها كل فصل شتاء، لكنها مع ذلك شعرت بتعب شديد وخمول زائد، فذهبت للمستشفى الرئيسي، وعندما تم فحصها، كانت المفاجأة حيث قال لها الطبيب المعالج: “إن المرض لا يرحم.. فالعديد من الأشخاص الآخرين في سوق ووهان لبيع الأسماك زاروا المستشفى بأعراض مشابهة لأعراضك”.

خاضت “وي” رحلة علاج بكامل مراحلها، فتم عزلها إلى أن تم شفاؤها، فصدر عن لجنة الصحة في بلدية ووهان، أن السيدة “وي” تعتبر من بين المرضى الأوائل الذين ثبتت إصابتهم بداء “كورونا”، وتم في حينها إطلاع منظمة الصحة العالمية بالأمر والتحذير من ظهور حالة الالتهاب الرئوي الناجم عن سبب غير معروف.

وما هي إلا أيام قليلة حتى غادر المرض حدود الصين، ليغزو دولا جديدة وعديدة، أخذت تعلن شيئا فشيئا عن وصول فيروس “كورونا” إليها، وظهور حالات جديدة سرعان ما أخذت تنشر العدوى من مكان إلى مكان، مما أنذر بظهور وباء عالمي وليد، لم يحسب له حساب، ولم يكن ليخطر على بال أحد أن تتلاحق الأحداث بهذه الوتيرة المتسارعة، حتى يصبح مرض “كورونا” الوباء الجديد الذي أخذ ينتقل بسرعة فائقة ويودي بحياة المصابين بفيروسه، فانتشر المرض أولا بالقارة الأوروبية (إيطاليا، وألمانيا، وإسبانيا، وفرنسا..) حيث نقل لهذه البلدان وغيرها “كورونا” عن طريق القادمين إليها من الصين، عبر الرحلات الجوية وغيرها، ثم انتشر وباء “كورونا” في أمريكا الشمالية والجنوبية، وخاصة البرازيل، وفي دول كثيرة مازالت تعاني من هذا الوباء من حيث عدد المرضى والقتلى الذين يقدرون بالآلاف، بل بالملايين.

فيروس “كورونا” عدو الإنسانية جمعاء

    اتفق العلماء على تسمية الجائحة التي يسببها فيروس “كورونا” باسم “داء كوفيد” وهذا الفيروس أحد عناصر مجموعة كبيرة من الفيروسات تعرف باسم الفيروسات التاجية corona virus، وهو سلالة جديدة من الفيروسات التي تسبب المرض للإنسان وحتى الحيوان.

وقد تهاجم هذه الكائنات الجهاز التنفسي في جسم الإنسان، مسببة أمراضا تتراوح حدتها بين نزلات البرد الشائعة والأمراض الأشد ضراوة، كما هو الحال بالنسبة للأمراض التنفسية الحادة MERS التي ظهرت سنة 2012، أو المرض المعروف باسم “سارس” SARS الذي انتشر سنة 2002.

يقول الدكتور حذيفة الخراط: “تعود بداية التعرف على الأمراض الناتجة عن الفيروسات التاجية إلى سنة 1937، إذ ظهر المرض حينها على شكل عدوى تصيب الطيور بالتهاب في شعبها التنفسية، ثم ظهرت سلالات فيروسية جديدة أصابت الحيوانات من ماشية وخيول وكلاب وقطط وغيرها”.

ويعود اكتشاف أول حالة بشرية مصابة بفيروس “كورونا” إلى فترة الستينات، وتم في سنة 2012 عزل رجل أصيب بفيروس “كورونا” توفي جراء هذا المرض، حيث شوهد حينها الفيروس المذكور بواسطة عدسات المجهر ولأول مرة.

وتذكر بعض المصادر العلمية، أن فيروس “كورونا” لا يحتمل درجات الحرارة المرتفعة، إذ يتلف تماما خلال عدة دقائق عند حرارة 70 درجة مائوية، ولعل عدم تأثر دول إفريقية بهذا الوباء يرجع لارتفاع حرارة طقسها ورطوبته في القارة.

طرق عدوى هذا المرض وانتشار أعراضه

     مما يختص به داء “كوفيد”، هو سرعة انتشاره وسهولة انتقال العدوى به من الشخص المريض نحو الآخرين عن طريق ما يعرف بعدوى القطيرات التي تتناثر من أنف المريض أو فمه محمولة مع هواء الزفير، إذ سرعان ما تنتشر هذه القطيرات في هواء الغرفة أو المكان المغلق، لتلتقطها أجهزة تنفس الأشخاص القريبين من الشخص المصاب، أو يحدث أن تسقط تلك القطيرات على ثوب أو غيره فيلمسه شخص قريب أو يستنشقه، فيتأثر بالقطيرات الصغيرة وذرات الرذاذ الحاملة للفيروس التي تتناثر من أنف المريض أو فمه محمولة مع هواء الزفير أو عندما يسعل المصاب أو يعطس، وسرعان ما تنتشر هذه القطيرات في هواء الغرفة لتلتقطها أجهزة تنفس الأشخاص القريبين من الشخص المصاب.

ومن وسائل العدوى الأخرى كما نعلم: استخدام اليد لمصافحة إنسان مريض (وإن لم تظهر عليه أعراض المرض)، وقد يحدث هنا أن تتلوث يد الشخص السليم بفيروسات تحملها يد المصاب، مما قد ينقل العدوى نحو الآخرين.

تتشابه كثيرا أعراض الإصابة بداء “كوفيد” الفيروسي مع غيرها من أعراض الأمراض التنفسية الأخرى، إذ يصاب المريض بارتفاع درجة الحرارة (الحمى) وقد يصاحب ذلك ظهور نوبات من الارتعاش، كما يشكو المريض من السعال وألم الحلق واحتقان الأنف وصعوبة التنفس وألم الصدر والصداع والوهن العام والغثيان والإسهال.

وقد يصاب البعض بداء “كورونا” دون أن تظهر على أجسامهم أعراض حادة، فيتعافى هؤلاء دون أخذ علاج خاص، وهكذا، فإن الإصابة بداء “كورونا” قد تكون خفيفة عابرة أو شديدة قاتلة.

الدروس المستخلصة من جائحة “كورونا”

    فوجئ العالم بجائحة “كورونا” التي انتشرت انتشار النار في الهشيم، حتى غدت واحدة من أبرز الكوارث الصحية التي مرت على البشرية في تاريخها الحديث، والتي استسلمت لها دول عظمى ومازالت تعاني من ويلاتها حتى الآن، وتقاومها باللقاح.

وليس منا من ينكر مخلفات هذه الجائحة وأبعادها السلبية الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية بصفة عامة، فقد أصيب الملايين بداء “كورونا” حول العالم وتوفي جراءها الملايين من البشر في مختلف المعمور، وحجر الناس في مساكنهم، وفقد الكثير منهم عملهم، وتدهور الاقتصاد العالمي، وألغيت المناسبات والأحداث والاحتفالات، وشلت معظم أشكال الحياة اليومية والنشاط البشري عامة، ومع ذلك، علينا أن نستخلص الدروس والعبر من أزمة “كورونا”، ولا ننسى هذه الجائحة التي غدت واحدة من أبرز الكوارث الصحية التي عرفتها البشرية في تاريخها الحديث.

يظهر جليا عجز الإنسان وقلة حيلته أمام كائن متناه في الصغر، لا تراه عينه المجردة، عاجز عن إيجاد حل ناجع لهذا الوباء، فعلماء الأوبئة في العالم يحاولون حتى الآن – وبعد مرور أزيد من سنة على ظهور الوباء – تطعيم البشرية ضد المرض أملا في شفائها، الأمر الذي أرغم أنوف الكثيرين ممن ظنوا أن الحضارة الحديثة قد وصلت إلى قمة العالم بمخترعاتها واكتشافاتها، وأنه لم يعد يقف أمامها حائل أو مانع، فجاء هذا الداء المفاجئ ليعرف الإنسان المغرور حجمه الحقيقي ويراجع حساباته.

إذن، فقد نجح وباء “كورونا” في بث رسالة مفتوحة لكل البشر عامة، مفادها أن الله سبحانه وتعالى قادر على تجنيد أصغر مخلوقاته، لتذكيرهم بعظمته وجبروته، وأن حاجة الناس إليه لا تنقطع برهة في زمن الشدة والرخاء على حد سواء.

ومن مظاهر الوجه الآخر لداء “كورونا”، أن الكل تخندق في خندق واحد، وفي صراع ضد عدو خفي لم يفرق بين غني وفقير، أو بين ذكر وأنثى، أو بين قوي وضعيف، ولا بين رئيس ومرؤوس، فالعدو واحد والخصم مشترك، وهو ما يتطلب من الجميع التعاون فيما بينهم للقضاء عليه.

ومن الفوائد التي جناها الكثيرون من “كورونا”، إدراك قيمة النعم التي كنا فيها وألفناها، ثم فقدنا شيئا منها بسبب ظروف الجائحة التي عملت على ابتعاد الأب عن ابنه، والزوجة عن زوجها، والصديق عن صديقه، والبقاء في منازلنا بعيدا عن قضاء حوائجنا اليومية ووسائل ترفيهنا خارج حدود بيوتنا، لاسيما عند فترة الحجر الصحي، وهذا يخضع له الإنسان أينما كان، وبذلك تغيرت نظرته إلى الحياة، فلا لقاءات ولا أفراح ولا أعراس، ولا حرية تنقل والتجوال خوفا من عدوى الجائحة.

فمن الدروس المستفادة من حدوث جائحة “كورونا”، شعور الإنسان بأن دوام الحال من المحال، وأن الإنسان خلق في كبد، وأن هذه الدنيا لا تصفو لأحد كيفما كان، فالعاقل من لا يركن إليها والحكيم من لا يأمن من جانبها، فالغدر شيمتها والمفاجآت غير السارة طبعها.

فجائحة “كورونا” فرصة سنحت للمسلمين للتعمق في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تخص الشؤون الصحية من نظافة الجسد والمكان والثياب للوقاية من الأوبئة والفيروسات، فالوضوء خمس مرات في اليوم يجدد نظافة الجسم والثياب، حيث أقرت الأبحاث العلمية بأثرها الفعال في وقاية الجسم من غزو الفيروسات، كما أدرك المسلم أهمية تعاليم دينه حين حثته على الابتعاد عن مصادر عدوى المرض وعدم دخول المناطق الموبوءة أو الخروج منها (الحذر الصحي)، قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها))، و((لا يوردن ممرض على مصح))، ولقد كان (ص) يحث الناس دائما على طلب العلاج والتداوي، إذ قال: ((يا عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء، إلا داء واحدا هو الهرم))، أي كبر السن.

لقد أكسبتنا “كورونا” ثقافة وقائية صحية غابت طويلا عن أذهان الكثير منا، فأصبحنا نولي غسل اليدين عناية خاصة، واستخدام المعقمات جزءا من حياتنا اليومية، كما أصبح وضع الكمامة ثقافة مألوفة، وغير ذلك من المظاهر التي تعود عليها أغلب الناس في المعمور.

والطبيعة من حولنا في العالم كله تنفست الصعداء، فأخذت البيئة قسطا من الراحة بعد عناء طويل، فنزلت أمطار الخير في ربوع العالم وكسيت الأرض بالثلوج، وأصبح الماء والتربة في تحسن كبير، فتغيرت نظرة الإنسان إلى الحياة أملا في أن ترفع غمة “كورونا” بعودة الحياة إلى سالف عهدها والإنسانية إلى نشاطها في وقت قريب، غير أن تقارير صادرة عن أطباء مختصين في الأمراض المعدية، كشفت أن العالم سيستغرق سبع سنوات حتى يعود إلى وضع ما قبل ظهور الفيروس، هذا إذا لقح ما بين 70 و85 في المائة من سكان العالم ضد هذا الوباء الفتاك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى