اقتصاد

اقتصاد | “كورونا” والاقتصاد.. وصناعة الاستقرار

بقلم: نجيب الصومعي

    يجتاح وباء “كورونا” العالم بشكل متسارع، مما جعل نصف سكان الكرة الأرضية في بيوتهم تحت الحجر الصحي، في سابقة غير معهودة منذ عصور. وهذا الاجتياح الفيروسي، أرخى بظلاله على المنظومة الاقتصادية العالمية، ووضع الدول في حالة “اقتصاد الحروب”، حيث أن العالم يستعد لأسوأ سنة اقتصادية منذ “الكساد الكبير” سنة 1929 (Great depression)، وأول مرحلة لظاهرة التوقف والتضخم (Stagflation) منذ أواسط الستينيات. ويرتقب أن تدخل الكرة الأرضية في “أزمة الصدمة الاقتصادية الكبرى” التي ستتسبب في نمو اقتصادي سلبي في جل دول العالم وموت اقتصادي لمجموعة كبيرة جدا من المقاولات، ترافقها خسائر خطيرة لمناصب الشغل ومعها “جودة الاستقرار الاجتماعي العالمي”.

والمغرب بدوره، سيعاني من التبعات الاقتصادية لوباء “كورونا”، على كافة المستويات المرتبطة بالتوازنات الماكرواقتصادية ومنظومة الطلب الداخلي والخارجي والهندسة الموازناتية، وهذه التبعات، رغم كونها عادية بالنظر للحالة الوبائية، إلا أنها تكتسي في طياتها تحديات عميقة، وفرصا واعدة لضمان تحول تنموي سليم ومستدام، والأكيد، أن التوقعات الاقتصادية التي يقدمها الاقتصاديون، ستظل دائمة التحيين، نتيجة التغيرات المتسارعة للوباء ولتبعاته.

يعرف العالم حالة من التوقف الاقتصادي (standby économique)، نتيجة تدابير الحجر الصحي الجماعي الذي اتخذته جل دول العالم من أجل محاربة الفيروس، وهذا التوقف ينعكس بشكل كبير على الاقتصاد العالمي الذي يجد نفسه في الطريق إلى كساد غير مسبوق منذ أزمة 1929، وحالة تراجع اقتصادي عالمي هي الأخطر منذ اعتماد منظومة”بريتون وودس” (bretton woods) عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، فمثلا يتوقع أن تعرف أمريكا انكماشا اقتصاديا (récession) يفوق 3.3 % سنة 2020، وأن تخسر حوالي 3.28 مليون منصب شغل، وهو رقم يفوق بخمس مرات ما خسرته من مناصب خلال أزمة 2008 (crise des subprimes)، كما يرتقب أن تشهد دول الاتحاد الأوروبي حالات انكماش تصل إلى 6 % في فرنسا و5 % في ألمانيا والحال يمكن أن يكون أكثر خطورة في إيطاليا وإسبانيا، وسيعرف جزء كبير من دول العالم الظاهرة الاقتصادية المعروفة بالركود التضخمي (Stagflation)، وهي حالة نمو اقتصادي ضعيف (croissance)، وبطالة عالية، يرافقه تضخم مرتفع (inflation).

وفي المغرب، يمكن التكهن بنفس سيناريو الاقتصاديات العالمية، لسببين رئيسيين مرتبطين أولا بدرجة انفتاح الاقتصاد الوطني على العالم والتي تتجاوز 80 %، وثانيا بدرجة التوقف الاقتصادي ببلادنا، خاصة على مستويات قطاعات السياحة والتجارة والخدمات والصناعة والفلاحة دون إغفال حالة الجفاف التي تمر منها البلاد، لكن الترابط (corrélation) بين مدة الطوارئ الصحية ومردودية الاقتصاد الوطني تبقى كبيرة، حيث كلما زادت هذه المدة كلما اقتربنا من سيناريو الانكماش والعكس صحيح، ويظهر هذا التوجه في قراءة المندوبية السامية للتخطيط، للظرفية الاقتصادية، حيث أكدت أن الاقتصاد الوطني سيعرف نسبة نمو سالبة تقدر بـ”ناقص 1.8%” خلال الفصل الثاني من سنة 2020، بسبب تقلص القيمة المضافة دون الفلاحة، بما يعادل النصف من وتيرة نموها موازاة مع توقف معظم أنشطة المطاعم والفنادق، وكذا تقلص 60 % من أنشطة النقل و22 % من أنشطة التجارة، وإضافة إلى تراجع الخدمات المؤدى عنها، يرجح أن تنخفض القيمة المضافة للقطاع الثانوي بـ 5 %، متأثرة بتراجع الصناعات التحويلية في ظل انخفاض الطلب الخارجي وتقلص صناعة السيارات والنسيج والإلكترونيك، وبدوره سيتأثر قطاع المعادن من تراجع الطلب على الصناعات الكيميائية عقب انخفاض صادرات الحامض الفوسفوري.

وهذه الحالة الاقتصادية السلبية، يمكن أن تهم فقط الفصل الثاني من هذه السنة، في حالة تمكن المغرب من ضمان التعافي السريع (fast recovery)، حيث سنتمكن من تجاوز هذا “الانكماش الظرفي” في الفصلين الاقتصاديين القادمين، وتحقيق ما يصطلح عليه “الانكماش الظرفي” (V – shaped recession) الذي سيزيح عن بلادنا سيناريو سنة “الانكماش الكلي” (Full recession). وأوليا، يمكن توقع نسبة نمو 1 إلى 1.2% كنسبة نمو في أكثر السيناريوهات تفاؤلا، ونسبة انكماش قد تصل إلى مستويات تفوق 6 % في أكثر السيناريوهات تشاؤما، وذلك بالرجوع إلى الفرضيات المرتبطة بسرعة التعافي.

أمام هذه الظرفية الاقتصادية الصعبة، سيحتاج المغرب لخطة اقتصادية محكمة لتدبير مرحلة ما بعد “كورونا”، تهم بالأساس مساعدة المقاولات الصغرى والمتوسطة، وإعادة تأهيل المنظومة الإنتاجية الوطنية، وستحتاج بلادنا لهذا الهدف، تعديلا مستعجلا لقانون المالية من أجل إعداد إطار جبائي

(cadre fiscal)، لإنقاذ المقاولات وإعادة هندسة منظومة الموارد لتوفير إمكانيات أنجع لدعم النسيج الإنتاجي ودفع عجلة التنمية، كما نوصي بضرورة تقليص نسبة إعادة تمويل الأبناك (taux directeur) إلى 1.75 % بصفة استثنائية ولمدة سنتين، لتسهيل تمويل المقاولات بتكلفة أقل مع تقوية منظومة الضمانات الوطنية، بتفعيل قانون الضمانات المنقولة وتعزيز دور صندوق الضمان المركزي.

وسيكون من المثالي، العمل على توفير خطة ميزانياتية لاستمرار دعم أسر الذين سيجدون صعوبة في استعادة وظائفهم، لضمان إنعاش منظومة الطلب الداخلي عبر تحفيز الاستهلاك، خاصة وأن قوة الاقتصاد الوطني تكمن في الطلب الداخلي، الذي ينبغي أن يوجه بشكل براغماتي للمنتوجات الوطنية الصنع، ويجب تسريع مسار تصدير المنتجات الطبية المحلية الصنع، خاصة في سياق ارتفاع الطلب العالمي عليها، مما سيمكن من تعويض جزء من الخسارات المترتبة عن تقلص منظومة الطلب الخارجي.

ولتوفير الإمكانيات المالية لهذه الخطة، نوصي بضرورة أن تستفيد الدولة من تصنيفها الائتماني المحترم وذي النظرة المستقرة حسب وكالات التصنيف الائتماني العالمية (Financial rating)، لإصدار سندات سيادية (obligations souveraines) خاصة بجائحة فيروس “كورونا”، والاستفادة من رغبة المستثمرين العالميين في تدبير مخاطرهم النقدية عبر الاستثمار في سندات سيادية مضمونة الربح ومحدودة المخاطر، وهذا الإجراء سيتيح لبلادنا تمويلات هامة بتكاليف أقل بكثير من المسار العادي للاقتراض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى