ملف الأسبوع | هل يتسبب غموض العلاقة بين المغرب وإسبانيا في العودة إلى نقطة الصفر ؟

بعد مرور ما يقارب خمس سنوات كاملة على المسيرة الخضراء، قدم الملك الراحل الحسن الثاني، تحليلا عميقا لما يمكن تسميته طبيعة العلاقات بين البلدين الجارين المغرب وإسبانيا، وذلك خلال حوار صحفي أجراه يوم 21 شتنبر 1980، حيث قال يومها ما يلي: ((إن العلاقات المغربية الإسبانية لا تستقر على حال منذ القديم، وحتى في فترات تألقها، فإذا كانت ثمة خارطة تحكي في مبناها ومعناها أحوال الجو، لكانت هي خارطة العلاقات المغربية الإسبانية، وذلك من يوم أن توجه طارق بن زياد لفتح الجبل الذي أصبح يحمل اسمه، وتلك الحال بين مد وجزر إلى يومنا هذا، فلم يا ترى؟ إنه التطابق في الطباع والود المتين، ثم ربما هناك نوع من مثلث مشؤوم يحيط بنا ويدفعنا إلى أن نتنازع لأتفه الأسباب، وكنت أعتقد أن إسبانيا والمغرب بعد توقيعهما على “اتفاق مدريد” (14 نونبر 1975)، سيدخلان مرحلة تعاون أخوي موضوعي، مرحلة مشاركة بناءة، إلا أن هذا الاتفاق الأمثل لم يكن مسترسلا كما كنت أتمناه، وكما كان يتمنى الملك خوان كارلوس نفسه، وكأنما هناك جهات لا هم لها سوى عوق الاتفاق بيننا)).. فهل التحليل الذي أعطاه الرجل منذ ما يقارب خمسة وأربعين عاما من الآن يبقى صالحا إلى يومنا هذا ومستقبلا أيضا، أم أن هناك تطورات حصلت بين البلدين ستجعل من غير الممكن عودة الأزمات بينهما ؟
أعد الملف: سعد الحمري
هناك حديث عن وجود خلاف بين المغرب وإسبانيا حول تسليم مراقبة المجال الجوي للصحراء من سلطات مدريد إلى سلطات الرباط.. فهل تكون بداية أزمة جديدة بين البلدين؟ وهو ما يعكس النسق السياسي للعلاقات بين المملكة المغربية والمملكة الإيبيرية كما رسمه الملك الحسن الثاني.
صدق أو لا تصدق.. الأزمات تبدأ بين المغرب وإسبانيا بعد الاتفاقيات التاريخية
في العادة تكون الاتفاقيات والمعاهدات بين مختلف بلدان العالم هي المحدد في نهاية الأزمات بينهم إلى غير رجعة، وبالتالي، العيش في حسن الجوار، غير أن ما يجري دائما بين المغرب وإسبانيا يبقى استثناء ولا تطبق عليه أي قاعدة معروفة في علوم العلاقات الدولية، فإذا كانت المعاهدات والاتفاقيات تنهي جميع المشاكل بين الأطراف، فإنه في حالة المغرب وإسبانيا عادة ما تكون بداية أزمة بينهما، لنعد فقط إلى المرحلة الممتدة من النصف الثاني من القرن العشرين إلى الآن، لنجد أن البلدين وقعا ثلاث اتفاقيات كبرى مهمة كان من شـأنها إنهاء كل خلاف ممكن.. ففي يوم 7 أبريل 1956، وقع البلدان اتفاقية استقلال شمال المغرب عن الحماية الإسبانية، وفي الوقت الذي كان من الممكن أن تدخل هذه الاتفاقية البلدين في مرحلة من التعاون وبداية صفحة جديدة، وقع العكس، فقد كانت بنود الاتفاقية غامضة وغير واضحة بالمرة وخلقت مشاكل اقتصادية وسياسية بين البلدين بسبب مطالب المغرب الترابية في صحرائه، وهو ما أدخل البلدين في مواجهات عسكرية وسياسية.
وبعد ما يقارب عشرين سنة على هذه الاتفاقية، وقع الجاران مجددا “اتفاقية مدريد” يوم 14 نونبر 1975، وهي اتفاقية ثلاثية بين المغرب وموريتانيا وإسبانيا تم بموجبها إنهاء الاحتلال الإسباني للصحراء وإعادتها للمغرب وموريتانيا، وفي الوقت الذي كان من الممكن أن تشكل هذه الاتفاقية نهاية كل الأزمات بين المغرب وإسبانيا، كما أشار إلى ذلك الملك الراحل الحسن الثاني، إلا أنها كانت فقط بداية أزمات كبرى، طبعت العلاقات بين البلدين طيلة نهاية القرن العشرين، ورغم وفاة الملك الحسن الثاني وبداية عهد جديد مع الملك محمد السادس، إلا أن ذلك لم يمنع البلدين من الدخول في أزمات كثيرة، أخطرها كانت في بداية عهد الملك الشاب، والتي وقعت سنة 2002 وتعرف بأزمة جزيرة ليلى، والتي كادت أن تتسبب في نزاع مسلح بين البلدين لولا تدخل الولايات المتحدة الأمريكية التي أعادت الأمور إلى نصابها.
وعلى العموم، أحصينا على مدى ربع قرن من حكم الملك محمد السادس، الأزمات التي وقعت بين البلدين فوجدنا عددها تجاوز خمسة، كانت بسبب سبتة ومليلية، وأخرى بسبب زعماء البوليساريو، وآخرها أزمة سنة 2021، التي وقعت بسبب استقبال إسبانيا لزعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي من أجل علاجه دون إخطار المغرب بذلك، واستمرت الأزمة مدة سنة كاملة، غير أن إسبانيا اختارت يوم 7 أبريل 2022 لتعلن عن انتهاء أزمة دامت لمدة سنة كاملة، وتخطو معها خطوة كبيرة في ملف الصحراء، حيث أعلنت عن دعمها لمبادرة الحكم الذاتي التي يقترحها المغرب كحل دائم للقضية التي عمرت طويلا. ومن المثير للانتباه هو اختيار الجارة الإيبيرية لهذا اليوم – 7 أبريل – حيث في مثل هذا اليوم من عام 1956، وقع البلدان اتفاقية تقضي بعودة المنطقة الشمالية إلى الوطن الأم، وكأن الجارة الشمالية كان قصدها من اعتماد هذا التاريخ هو اعتراف ثاني باستقلال نهائي للمغرب وتسليمه كافة أجزائه الترابية، وبالتالي، نهاية المشاكل بين البلدين إلى غير رجعة، غير أنه ظهر مؤخرا أن العلاقات بين البلدين ما زال من الممكن أن تعود إلى نسقها الطبيعي، ويتعلق الأمر بظهور الأزمات بشكل متكرر، وهو ما يظهر جليا مع بروز قضية تسليم مراقبة المجال الجوي للصحراء إلى المغرب.. فهل تكون هذه هي الأزمة الأخيرة في العلاقات بين البلدين ؟

لغز غموض “النقطة السابعة” من اتفاقية 7 أبريل 2022 يحمل أكثر من تفسير
منذ 7 أبريل 2022، تطورت الأمور بين إسبانيا والمغرب بشكل لافت، حيث سارت العلاقات الاقتصادية والسياسية في تطور إيجابي غير مسبوق، وانخرط الجاران في أوراش كبرى لعل أهمها التنظيم المشترك لكأس العالم 2030 وما يرتبط به من مشاريع، أهمها مشروع الربط القاري بين البلدين عن طريق معبر بري يربط بينهما، لكن ماذا جاء في اتفاقية 7 أبريل 2022، التي من الممكن أن تنهي كل المشاكل بين البلدين، سواء كانت صغيرة أو كبيرة ؟
في الواقع، تضمن اتفاق 7 أبريل 2022 عدة نقاط، غير أن أهم نقطتين تبقى أولا النقطة الثالثة التي تنص على ما يلي: ((سيتم الاستئناف الكامل للحركة العادية للأفراد والبضائع بشكل منظم، بما فيها الترتيبات المناسبة للمراقبة الجمركية وللأشخاص على المستوى البري والبحري))، في حين تنص النقطة السابعة على أنه ((سيتم إطلاق مباحثات حول تدبير المجالات الجوية))، وتبدو النقطة الثالثة واضحة، حيث أن إسبانيا هي من تحتل المدينتين سبتة ومليلية، ومعنى ما جاء في هذه النقطة أن إسبانيا ستستمر في تحصيل جمارك المدينتين وهو ما يعني ضمنيا استمرار فرض سيادتها على المدينتين، أما النقطة السابعة، فقد ضلت غامضة، على غرار العديد من النقط في معاهدات سابقة، وظل كل واحد يفسرها حسب فهمه، وهو ما تسبب في مشاكل كثيرة تبعا للتعبير الفضفاض: ((سيتم إطلاق مباحثات حول تدبير المجالات الجوية))، فليس هناك شيء مفهوم في هذه الفقرة وليست هناك إشارة للحيز الزمني المخصص لبداية المباحثات ونهايتها، ولا طبيعة المباحثات، هل يتعلق الأمر بالتعاون في إدارة المجال الجوي للصحراء؟ بمعنى هل سيكون مشتركا، أم أن الأمر يتعلق بمباحثات حول نقل مراقبة المجال الجوي للصحراء من إسبانيا إلى المغرب، وهو ما يعني اعتراف إسبانيا بشكل ضمني ورسمي وتسميتها كما نشاء بسيادة المغرب على الصحراء؟ ليس هناك أمر واضح لحد الآن.
فهل ارتكب الجانب المغربي خطئا في ترك هذه النقطة غامضة، أم أن الدبلوماسية المغربية اكتسبت من التجربة ما يكفي لكيلا تعود لمثل هذه الأخطاء لا سيما مع إسبانيا، خاصة وأنها تميزت بنضج كبير في السنوات الأخيرة فيما يخص تدبير الأزمات مع قوى عظمى مثل ألمانيا وفرنسا ؟

وحسب ما خرج مؤخرا في وسائل الإعلام، فإن هناك ربطا بين سبتة ومليلية المحتلتين وإدارة المجال الجوي للصحراء، بمعنى أن المغرب ينتظر من إسبانيا أن تسلمه إدارة المجال الجوي للصحراء مقابل السماح بمرور البضائع من سبتة ومليلية. وهذا تحليل جميل قدمه الكاتب التونسي نزار بولحية، حول هذا الموضوع، حيث كتب ما يلي: ((في كل الأحوال، فإن تداخلا وتقاطعا بين عدة عوامل داخلية وإقليمية ودولية جعل تلك الحسابات تسقط في الماء، فالربط الآلي بين ملف الصحراء وملف سبتة ومليلية والجزر المحتلة، وضع البلدين في مأزق حقيقي وجعل كل واحد منهما يحاول الاحتفاظ بأوراقه كاملة وإلى آخر لحظة، والثابت أنهما كانا على علم تام بحجم التعقيدات المطروحة أمامهما، بل كانا يدركان جيدا ومن البداية مقدار الحساسية الكبرى لما كانا مقبلين عليه، حين أقرا، وفي بند من بنود خريطة الطريق التي اتفقا عليها، وبصيغة ربما تكون غامضة أو ملتبسة بعض الشيء بأنه “ستتم معالجة المواضيع ذات الاهتمام المشترك بروح من الثقة والتشاور بعيدا عن الأعمال الأحادية، أو الأمر الواقع”، ما يعني أنهما أرادا أن يعطيا لنفسيهما هدنة تتيح لهما التفكير بعيدا عن أي ضغط في الشكل الذي ستكون عليه علاقاتهما في المستقبل.. لقد حدد المغاربة أولويتهم بوضوح وهي الصحراء، أما الإسبان فإن أولويتهم ظلت اليوم مثل الأمس هي غلق ملف سبتة ومليلية والجزر الجعفرية المحتلة بشكل تام ونهائي، والسبيل إلى ذلك – في نظرهم – هو التوصل إلى صيغة يقدم المغرب من خلالها تنازلا رسميا بعدم المطالبة بهما، ولأن ذلك لم يتم إلى الآن، فقد بدأت بعض الأصوات حتى داخل الحكومة الإسبانية، تعتبر أن إسبانيا قدمت للرباط تنازلات كثيرة من دون أن تحصل منها بالمقابل على التنازل الذي تنتظره منها، لكن هل يعني ذلك أن العلاقات بين البلدين ستكون العام المقبل أمام منعطف تاريخي حاد قد يقودها إلى الأمام أو يعيدها إلى الوراء؟))
ومهما يكن، فإنه لا يتسرب الكثير حول أين وصلت المشاورات في شأن إدارة المجال الجوي للصحراء، اللهم ما تقدمه الحكومة الإسبانية من إجابات للنواب الإسبان، ومن ذلك، أنه في مارس 2024، كان جواب الحكومة الإسبانية عن سؤال برلماني في مجلس الشيوخ حول هذا الموضوع، جاء فيه: ((إن وزيري الخارجية الإسباني والمغربي اتفقا أواسط دجنبر الماضي على استئناف جميع مجموعات العمل المشتركة، بما في ذلك مجموعة عمل التعاون في إدارة المجال الجوي، مؤكدة أنه رغم أن المجال الجوي في الصحراء يدار من طرف شركة “إينير” الإسبانية، إلا أنها لا تقدم أي خدمات لمراقبة المطارات أو خدمات الاقتراب في أي من مطارات الصحراء، بما في ذلك مطاري الداخلة والعيون)). يبدو أن جواب الحكومة الإسبانية كان واضحا حول نظرتهم إلى طريقة تسيير المجال الجوي في الصحراء.. فقد جاءت في جوابها عبارة “التعاون” في إدارة المجال الجوي، بمعنى أن الإسبان يقاربون الموضوع من منظور التعاون وليس تسليمه للمغرب.
أما آخر موقف حول هذا الموضوع، فقد كان خلال يوم 18 دجنبر الماضي، حيث ذكرت مصادر إعلامية إسبانية، أن وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس خلال جلسة برلمانية تفادى الخوض طويلا في هذا الموضوع.. فقد نفى وجود أي خطوات في هذا الاتجاه حاليا، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن فتح خطوط جوية، كما هو الشأن بالنسبة لخط شركة “ريان إير” من مدينتي مدريد ولانزاروتي نحو الأقاليم الجنوبية للمغرب، تعد قرارات ذات طبيعة تقنية مرتبطة بشركات الطيران وليست قرارات سياسية، كما جدد الدبلوماسي الإسباني تشبث بلاده بتنفيذ خارطة الطريق الموقعة مع المغرب في أبريل 2022 التي تهدف إلى تعزيز الشراكة بين الرباط ومدريد، مؤكدا في الوقت ذاته على أهمية العلاقات بين المغرب وإسبانيا لكلا البلدين.
لتخرج الصحافة الإسبانية وتعلن أن هناك أمرا ما يقع بين المغرب وإسبانيا، حيث تحدثت أنه بعد قرابة ثلاث سنوات من المباحثات المكثفة، كانت كافة الترتيبات جاهزة لافتتاح جمارك سبتة ومليلية، إلا أن المغرب فاجأ الجميع بإيقاف دخول الشاحنات الإسبانية المقررة، مما أثار استغراب مدريد ودفعها إلى البحث عن الأسباب، وهكذا يبدو أن الرباط تعتبر أن إسبانيا لم تلتزم بتعهدات سابقة، أبرزها تسليمها المجال الجوي للصحراء.