تحليل إخباري | طي صفحة “سنوات الرصاص” ومنح شهادة الميلاد لفؤاد عالي الهمة
كواليس من مطبخ "الإنصاف والمصالحة"
إعداد: سعيد الريحاني (الجزء الأول)
يقول المثل المغربي: “العيب ماشي في اللي كيزرع فوق السطح، العيب في اللي كيخمَّس عليه”.. بهذا المثل اختار الإعلامي والأديب عبد العزيز كوكاس، الذي ينتمي لذلك الجيل من الصحافيين الذين شكلوا ملامح “الزمن الإعلامي الجميل”، عندما كان الإعلام في قلب اهتمامات الحكم والدولة(..)، اختار أن يرسم صورة عن “المخزن” على شكل “براد”، عبر حكاية مركزة قال فيها ما يلي:
((يُحكى، والعهدة على الراوي، أن باحثا مصريا حضر إلى المغرب بغية إنجاز دراسة حول النظام السياسي، بنياته وإبدالاتها التاريخية، وبعد أن ابتلع كميات كبيرة من الكتب التي تتحدث عن تشكل نظام المخزن في المغرب وعلاقته بالنخب التي تدور في فلكه، وجد نفسه عاجزا عن فك ألغاز هذا النظام السياسي الفريد من نوعه، فشكا همه إلى طالب مغربي يجلس بجواره في مكتبة الخزانة العامة بالرباط، لعله يستجلي من ابن البلد بعض أسرار المخزن، وبعد أن خمّن الطالب وتدبر، أسعفه خياله الواسع فبادر سائلا الشاب المصري:
– هل تعرف “البرَّاد” المغربي، ذلك الإبريق الذي يهيأ فيه الشاي؟
+ نعم، هذا الذي يشبه العربي، ببطن منتفخ ورأس فارغ منتصب دوما، وله يد كل من أتى يستعمله !؟
– جيد هو ذاك، فالمخزن عندنا يشبه البراد !
ولما لاحظ استغراب الباحث المصري الذي شَكُل عليه الربط بين البراد والمخزن، أضاف الطالب المغربي مستوضحا:
– أنت تعرف سنيدة.. ذا نوع من السكر تضعه في البراد فيذوب بسرعة، سنيدة ذي هي العنصر وأحرضان، محمد أبيض، فهد يعته، عيسى الورديغي، والتهامي الخياري.. دول ذايبين على طول في براد المخزن، وفيه كمان سكر مقرط، ذا عبارة عن قطع متوسطة، يلزمها القليل من الوقت لتذوب أيضا في براد الشاي، قطع السكر هذه هي عصمان، عبد العالي بنعمور، علي بلحاج، عباس الفاسي.. سكر عندنا جامد قوي نسميه في المغرب بالقالب، ذا يلزمه وقت طويل لكي يذوب كمان.. القالب ذا هو زي عبد الرحمان اليوسفي، محمد اليازغي، محمد شفيق، نوبير الأموي، إسماعيل العلوي، عبد المجيد بوزوبع.. دول يبدو فيالبداية عَصِيِّين شوي، بس في الأخير بيذوبو !
ولما لاحت أمارات الانشراح على المصري، أضاف الطالب المغربي:
– وفيه كمان شمندر.. ذا ما يصلحش أبدا وضعه مباشرة في البراد، لأنه بدون طعم ولا مذاق كمادة خام، ومهما كانت درجة الحرارة لن يذوب، ذا يلزمه وقت طويل، ومصنع خاص للتحويل، بس في الأخير بيصير سكر، وبيذوب كمان.. الشمندر ذا في نخبتنا هو: بنسعيد أيت يدر، صلاح الوديع، الفقيه البصري…
ثم هناك سكارين، أي سكر بدون مذاق يستعمله المرضى بالسكر.. دول ذايبين على طول في براد المخزن، دول نسميهم وزراء السيادة والتكنوقراط: العلوي المدغري، عبد الصادق ربيع، محمد بنعيسى ومزيان بلفقيه…
لكن فيه سكر صلب، لا يقبل الذوبان في براد المخزن، ذا فيه أساليب خاصة، مصانع مغربية تخضعه للذوبان القسري، مثل قلعة مكونة، درب مولاي الشريف، تازمامارت.. دول مثل: بنو هاشم، زعزاع، بنزكري، الساسي، أحمد بنجلون، عبد الرحيم برادة، وعبدالرحمان بنعمرو.. دول بيذوبو كمان في براد المخرن بطريقة خاصة، سيلزمها وقت طويل.. لكن أكيد بيذوبو)) (المصدر: منقول عن الكاتب عبد العزيز كوكاس).
الحكاية الواردة على لسان الكاتب، تم استحضارها في هذا الوقت بالذات، بمناسبة مرور 20 سنة على إطلاق تجربة “الإنصاف والمصالحة”، وهي تلك التجربة التي مكنت من صنع صورة جديدة لنظام الحكم في المغرب، الذي ظلت تطارده لوقت طويل تهمة “سنوات الرصاص”، وقد كان من الطبيعي أن تتزامن تلك التجربة مع السنوات الأولى لحكم الملك محمد السادس، والهدف هو طي صفحة الماضي(..)، ورغم أن الصفحة الأخيرة تكاد تطوى بعد قراءة السطور الأخيرة من بعض الملفات العالقة(..)، إلا أن أهمية التجربة هي التي جعلت الملك محمد السادس يخصص رسالة كاملة، تليت في البرلمان المغربي، للتذكير بأهمية التجربة، حيث قال: ((إنها فرصة لتذكير الأجيال الحالية والمقبلة بما راكمته المملكة المغربية من إصلاحات ومصالحات في إطار من التوافق والجرأة في قراءة تاريخنا وماضينا دون عقد أو مركب نقص..))، وأضاف الملك محمد السادس بلغة لا تخلو من الإشارات العميقة: ((إن قرارنا بإحداث هيئة “الإنصاف والمصالحة”، استمرارا للهيئة المستقلة لتعويض ضحايا الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، التي كان قد أحدثها والدنا المنعم الملك الحسن الثاني.. وكان قرارا سياديا ضمن مسار طوعي لتدبير الشأن العام يقوم على مفهوم جديد للسلطة وعلى مسؤولية المؤسسات ومحاسبتها لضمان كرامة كل المغاربة)) (المصدر: رسالة الملك محمد السادس موجهة للمشاركين في الندوة الدولية حول “التجربة المغربية في مجال العدالة الانتقالية”، انعقدت يومي 6 و7 دجنبر 2024 بمقر البرلمان.. وتلتها أمينة بوعياش، رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان).
الرسالة الملكية مفهومة(..)، لكن حلول ذكرى تأسيس هيئة “الإنصاف والمصالحة” وسط هذه الأجواء الباردة(..)، بعد الإشادة بها من أطراف وطنية ودولية كتجربة مغربية أغنت تجارب العدالة الانتقالية الكونية ووشمتها بميسم خاص ومتفرد، والمناسبة يفترض إعادة الحديث عن هذا المسار الذي طبع مرحلة العهد الجديد، وجعلت المغرب يسعى إلى طي صفحة سوداء من ماضيه التصق بها وصف “سنوات الجمر والرصاص”، لذلك تسعى هذه الورقة الكشف عن معطيات جديدة في مجال تجربة المصالحة والإنصاف، في اللحظة التأسيسية التي مهدت لإعلان تأسيس هيئة “الإنصاف والمصالحة” وقيادة الراحل إدريس بنزكري رفقة حقوقيين ويساريين، لهذه التجربة..
في قلب البحث، وبالاعتماد على مصادر متعددة، وحكاية أساسية(..)، يجب التساؤل ما الذي حدث بالضبط؟ كيف التقى فؤاد عالي الهمة، باعتباره رجل المرحلة، بالراحل بنزكري، وكيف نجح في أن يوازن بين مطالب الحقيقة وبعد المصالحة؟ وكيف مهد نجاحه في إدارة هذا الملف الثقيل والمليء بالمآسي والأشواك مع استمرار نفوذ الحرس القديم، لأن يلمع نجمه على باقي أصدقاء الملك في المدرسة المولوية الذين أصبحوا مستشارين له؟ من هي الشخصيات التي ساهمت في إعداد الطبخة الأولى، وكيف كان يتم التفاعل مع فؤاد عالي الهمة في قلب المطبخ، من طرف شخصيات، بعضها مسحته ممارسة السياسة من الوجود، فيما آخرون تغير وضعهم الاعتباري، وطبعا هناك من “ترقى” وهناك من “سقط”، وهناك من نجح وهناك من فشل.. كما هي العادة في لعبة الاحتكاك مع عجلات الزمن وعجلات الدولة.. “الدائم هو الله”.
تحكي مصادر مطلعة لـ”الأسبوع” عن مرحلة “ما قبل ميلاد الإنصاف والمصالحة” قائلة ما يلي: ((تعتبر هيئة “الإنصاف والمصالحة” نتاجا لمرحلة طويلة فرضها الانتقال الذي بدأ مع الملك الراحل الحسن الثاني، والتي انطلقت مع بداية تدشين الانفراج السياسي منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، حيث شمل العفو الملكي أفواجا من المعتقلين السياسيين توجت في عام 1994 بإعلان العفو العام الشامل عن المعتقلين وعودة المنفيين والمغتربين، وتأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الذي أنشئ سنة 1990، حيث توجت بإحداث هيئة التحكيم المستقلة للتعويض عن الضررين المادي والمعنوي لضحايا وأصحاب الحقوق ممن تعرضوا للاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، بتاريخ 16 غشت 1999، للنظر في التعويضات المستحقة للضحايا وتأهيلهم صحيا ومعنويا، وتم الإعلان عنها في بلاغ خاص تلاه الناطق الرسمي باسم القصر الملكي، وذلك بناء على اقتراح المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في توصيته بتاريخ 2 يوليوز 1999.. وهو البلاغ الذي كان محط جدل لأنه جعل الضحايا شركاء في جرائم الاعتقال والاختطاف التعسفي.. وقد أنهت الهيئة النظر في 5127 ملفا، أصدرت بشأنها 3653 مقررا بمنح التعويضات النهائية المستحقة لفائدة 5300 شخص، والتي بلغت ما يناهز 954.000.000 درهم، و885 برفض الطلب و139 مقررا بصرف النظر لعدم استجابة أصحابها رغم الاستدعاءات المتكررة الموجهة إليهم أو لعدم الإدلاء بالوثائق الضرورية لدعم طلباتهم)).
نفس المصادر تؤكد أن ((المسار الحقيقي والثوري لميلاد هيئة “الإنصاف والمصالحة” سينطلق مع مجيء الملك محمد السادس إلى الحكم في نهاية يوليوز 1999، حيث تم الإعلان عن تحويل المجلس إلى المجلس الوطني لحقوق الإنسان ليتفق مع مبادئ باريس، وقد أدخل عليه تعديل في سياساته في عام 2011، بمنح المؤسسة المزيد من الصلاحيات الموسعة واستقلالية أكبر في اتخاذ القرارات.. وأصبح للانتقال على عهد الملك الجديد عنوانه العريض هو طي سنوات الجمر والرصاص الممتدة ما بين 1956 و1999، بغرض فهم تجارب الماضي الأليمة، التي تميز أغلبها بالعنف والدم والعديد من المآسي الفردية والجماعية وتهميش مناطق عديدة في البلاد وإقصائها من التنمية بما يشبه عقابا جماعيا، وكذا طي صفحة الماضي وسن قوانين جديدة تمنع من أن يتكرر ما حدث من عنف مؤسسي خارج القانون..)).
هذه الدينامية المرتبطة ببناء مسار جديد يعطي الشرعية لمفهوم الانتقال الديمقراطي، ويعزز موقع الملك الشاب والنخبة المولوية من مستشاريه، سيقودها عمر عزيمان، الذي كان يومها وزيرا للعدل، ولعب دورا أساسيا في إعداد اللبنات الأولى لنظام المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، عينه الملك الراحل وزيرا منتدبا لدى الوزير الأول مكلفا بحقوق الإنسان من نونبر 1993 إلى فبراير 1995، ثم وزيرا للعدل بين سنة 1997 و2002، وسيعينه محمد السادس على رأس المجلس في شكله المعدل مع حفاظه على حقيبته الوزارية.
قاد عمر عزيمان في هذا الإطار فكرة المصالحة السابقة على قدوم إدريس بنزكري الذي كان حينها في منتدى الحقيقة والإنصاف يطالب الدولة صحبة رفاقه الضحايا بالحقيقة والإنصاف، وهي المصالحة التي كانت معالمها قد توضحت بعد تأسيس لجنة التحكيم المستقلة.
بين عزيمان والهمة واليساريين..
تقول مصادر “الأسبوع” المتمكنة من التفاصيل الدقيقة: ((نجح عمر عزيمان في إقناع رجال العهد الجديد بفكرة الإنصاف بدل الحقيقة في معالجة ملفات ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ونجح في ذلك، وساعده أن محاوريه من مستشاري الملك كانوا من طلبته في كلية الحقوق، وكانت قد نمت بين الطرفين ألفة كبيرة، هنا سيدخل فؤاد عالي الهمة على الخط بكامل ثقله في ملف ملتبس وشائك، نجاحه في حسن إدارته هو الذي ساهم في جعله رجل دولة تميز عن باقي أصدقائه ومنافسيه في أن يصبح الصديق المقرب من الملك محمد السادس، إذ هو صاحب فكرة المصالحة التي قاد من خلالها مفاوضات عسيرة في تلك المرحلة مع جيل من اليساريين، هم الذين سيشكلون النواة الأولى لما سيعرف فيما بعد باسم اليسار الاشتراكي الموحد.
كان هؤلاء من الرموز الكبار في اليسار الجديد، بينهم إدريس بنزكري، صلاح الوديع، أحمد حرزني، عبد القادر الشاوي… وبطبيعة الحال من سيصبح نجما لهذه الدينامية، وهو إلياس العماري، وباقي رموز اليسار الذين سينخرطون في دينامية تأسيس جمعية “لكل الديمقراطيين” التي ستشكل النواة الأساسية لحزب فؤاد عالي الهمة، الذي يعرف اليوم بالأصالة والمعاصرة)) (حزب فؤاد عالي الهمة تعبير ورد على لسان مصادر “الأسبوع”).
تجربة “الإنصاف والمصالحة” التي اختارها المغرب في بداية العهد الجديد، سيصبح لها ميسما متميزا لعب فيه الدور الأبرز فؤاد عالي الهمة، باعتباره أحد العناصر المهمة في إدارة الانتقال.. وبعد تجربة أول انتخابات على عهد الملك محمد السادس، التي كان رأسه فيها على المقصلة، كان ملف تجربة “الإنصاف والمصالحة” المحك الأكبر له كرجل دولة في بداية مساره، وقد نجح في إثبات دهائه وذكائه السياسي مما جعله يعزز نفوذه ويكون محط ثقة الملك محمد السادس.. كيف حدث ذلك ؟
عندما استقطب الهمة إدريس بنزكري
كان فارس الرهان الأول لتزعم تجربة المصالحة التاريخية مع الماضي الجريح، والتي أرسى عمر عزيمان بنيتها القانونية وهيكلها النظري أو الحقوقي، هو عبد الرحمان اليوسفي، الذي اقترح عليه الأمر، لكنه اعتذر بنبل متعللا بحالته الصحية ورغبته في الراحة، لذلك استقطب فؤاد عالي الهمة المرحوم خالد الجامعي، الذي عمل لديه كمستشار، واقترح رئيس تحرير “لوبينيون” يومها اسم عبد الرحيم الجامعي ليقود تجربة “الإنصاف والمصالحة”، بدهاء كبير أدخل الهمة خالد الجامعي في المختبر، هو من استقطب بحكم نفوذه وعلاقاته سميرة سيتايل ونرجس الرغاي للقاء فؤاد عالي الهمة، ودخلا معا في ترتيبات مرحلة الانتقال الحقوقي، ولم يكن هذا المختبر سوى المرور ضيفا على برنامج “حوار” لمصطفى العلوي، للأسف لم تسلم جرة الصحافي المشاكس مستشار فؤاد عالي الهمة، من تلك الحلقة التي استدعى لها كل مكونات اليسار: نبيل بنعبد الله، محمد الساسي، محسن عيوش، محمد كرين، وأبوبكر الجامعي، عبد الجبار السحيمي، وآخرين لامعين…
وكما هو معلوم، فإن “الصحافة سلاح ذو حذين”.. ففي تلك المرحلة طرح الصحافي عبد العزيز كوكاس، الذي بدأنا هذا الموضوع بحكايته عن المخزن، قد طرح أسئلة عميقة على ضيف مصطفى العلوي، الذي كان صديقه وفي ذات الآن والد مشغله، هذه الأسئلة أبرزت الجانب الهش في خالد الجامعي، ومن يومها “غسل الهمة يده على الصحافي الاستقلالي” (بتعبير مصادر “الأسبوع”).