ملف الأسبوع | المغرب والصين بين مقاومة الاستعمار والبحث عن حلول للمعادلات الاقتصادية
من زمن محمد الخامس إلى اليوم
كانت هذه السنة حافلة بين المغرب والصين، حيث تبادل عدة مسؤولين بين البلدين الزيارات، أهمها وآخرها زيارة الرئيس الصيني غير الرسمية للمملكة منذ أيام، وقد حملت هذه الزيارات مشاريع وآفاق مستقبلية، وصل الأمر معها إلى حديث وسائل إعلام إسبانية عن نية الصين فتح قنصلية بالعيون والإعلان عن اعتراف بكين بمغربية الصحراء..
أعد الملف: سعد الحمري
المغرب والصين.. نصف قرن من تبادل الزيارات
إن العلاقات المغربية الصينية ليست وليدة اليوم، فعند قراءة تاريخ العلاقات بين البلدين، نجد أن المغرب يعتبر ثاني بلد على مستوى القارة الإفريقية، بعد مصر، يعترف بجمهورية الصين الشعبية، في الوقت الذي كانت فيه هذه الدولة “مبعدة” من قبل الدول الغربية، بعد قيام الثورة الشيوعية فيها، حيث أصبحت مقصية من مقعدها في مجلس الأمن(..).
ويعود تاريخ اعتراف المملكة المغربية بالصين الشعبية وإقامة علاقات دبلوماسية معها، إلى فترة ما بعد الاستقلال مباشرة.. فقد بدأت بوادر ذلك عندما زارت بعثة دبلوماسية مغربية الصين الشعبية يوم 29 أبريل 1957 واستقبلها زعيم الصين الشيوعية ماو تسي تونغ ورئيس مجلس الدولة (رئيس الوزراء) شو آن لاي، وقد مهدت هذه الزيارة إلى قيام البلدين بإبرام أول اتفاق تجاري بينهما وكان ذلك في 13 أكتوبر 1957، ثم لاحقا في 1 نونبر 1958، أقيمت العلاقات الدبلوماسية الرسمية، حيث تبادل البلدان السفراء.
ومن الجدير بالذكر، أن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، الصين والمغرب، أقيمت في فترة تاريخية حرجة، كانت خلالها الإيديولوجيا هي التي تحرك علاقات الدول فيما بينها، فقد وجد المغرب، الذي خرج لتوه من الاستعمار، نفسه مطالبا ببناء دبلوماسيته وإقامة شبكة علاقاته الخارجية بعيدا عن فرنسا، الدولة الحامية سابقا، وكانت لملك المغرب محمد الخامس رؤية خاصة، تتمثل في إقامة علاقات متميزة مع الجميع بمعزل عن الخلافات الإيديولوجية، والنأي عن التدخل في السياسة الداخلية للبلدان، مع الحرص على مساندة قضاياها المشروعة، فلم يكن يرى في الصين الخطر الأصفر كما كان يصورها الغرب ووسائله الإعلامية.
وفي نفس السياق، وجدت هذه الرؤية تناغما من قبل القادة الصينيين الذين كانوا يودون نسج علاقات أوسع مع منطقة شمال إفريقيا وصداقات أوثق، بالنظر لكون الصين والمغرب عايشا ويلات الاستعمار والكفاح من أجل الاستقلال، ويبحثان، كل بطريقته، عن الخروج من التخلف وتحقيق إقلاعهما الاقتصادي واسترجاع أراضيهما وتحقيق وحدة بلديهما.
وعلى مدى خمسة عقود، زار المغرب من الجانب الصيني رئيسا مجلس الدولة (رئيس الوزراء) السابقان شو آن لاي في العام 1963 وتشاو تسه يانغ في العام 1982، وخلال عقد التسعينيات زار الرئيس الصيني يانغ شانغ كون المملكة في العام 1992، تلتها زيارة رئيس مجلس الدولة لي بنغ عام 1995، وقبل وفاة الملك الراحل الحسن الثاني، قام الرئيس الصيني جيانغ تسه مين بزيارة رسمية للمملكة في عام 1999، وفي بداية عهد الملك محمد السادس، كانت أول مبادرة دبلوماسية من الجانب الصيني سنة 2002، حيث حل بأرض الوطن رئيس مجلس الدولة تشو رونغ جي، تبعثها زيارة رئيس المجلس الوطني لنواب الشعب ووبانغ قوه في العام 2005، وأخيرا زيارة الرئيس الصيني هو جين تاو إلى الرباط في أبريل 2006، التقى خلالها الملك محمد السادس، في إطار جولة إفريقية بدأها بالرباط.
أما من الجانب المغربي، فعلى مدار السنوات الخمسين الماضية، عرفت التبادلات والزيارات من مستوى عال بين البلدين زخما كبيرا.. فقد قام الملك محمد السادس بزيارة للصين في الفترة ما بين 4 و9 فبراير 2002، وتعتبر ثاني زيارة رسمية له لهذا البلد بعد زيارته الأولى في عام 1991 عندما كان وليا للعهد، ومن بين الزيارات الأخرى لكبار المسؤولين المغاربة، زار الراحل الأمير مولاي عبد الله الصين في العام 1964 والوزير الأول الراحل المعطي بوعبيد في 1982 والرئيس السابق للبرلمان أحمد عصمان في العام 1986، والأميرة للا مريم في العام 1987 والوزير الأول السابق عبد الرحمان اليوسفي في العام 1998 والوزير الأول السابق إدريس جطو في العالم 2006.
من 2002 إلى 2016.. المغرب أمام مهمة البحث عن شركاء جدد
رغم هذه الزيارات المتبادلة على مدى خمسة عقود وأكثر، إلا أنها لم تجعل العلاقات الاقتصادية ترتقي لمستوى عال، كما أنه لم يسبق للتقارب المغربي الصيني أن أثار حفيظة الولايات المتحدة الأمريكية أو المعسكر الغربي، إلا أنه ومع حلول الألفية الجديدة، بدأت الرياح تتغير بين المغرب والصين وسارت تجري في اتجاه تقوية العلاقات الاقتصادية، فقد زار الملك محمد السادس، ثلاث سنوات بعد اعتلائه العرش، الصين الشعبية سنة 2002، قابلتها زيارة الرئيس الصيني للمغرب سنة 2006، الذي كان في جولة لعدد من بلدان إفريقيا لتعزيز مستقبل العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية بين بلاده ودول القارة السمراء، وقد تم التوقيع على سبع اتفاقيات بين البلدين، تتناول مجالات التجارة والسياحة والثقافة والبحث العلمي، وأيضا الأسمدة ومواد البناء، كما عرضت بكين تدريب عمال مغاربة بقطاع النسيج للمساعدة في دعم صناعة تستأثر بأكثر من ثلث صادرات البلاد، وتعاني رغم ذلك من منافسة الغزو الصيني للسوق الأوروبي الحيوي بالنسبة للمغرب.
غير أن هذه الحركية لم ترق إلى حجم التطلعات، وتبقى سنة 2016 منعطفا، حيث شهدت فيه علاقات المغرب وحليفيه التقليديين، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، توترات دبلوماسية.. ففيما يخص العلاقات المغربية الأمريكية، بدأ التوتر على خلفية تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية صدر في ماي 2016، انتقد بشدة أوضاع حقوق الإنسان في المغرب، بتحدثه عن “استخدام أساليب تعذيب على يد قوات الأمن لانتزاع اعترافات بجرائم، إضافة إلى عدم وجود تحقيقات ومحاكمات للأفراد المتهمين بالتعذيب”، بينما لم يكن حظ الاتحاد الأوروبي مع غضب الرباط أقل من واشنطن، بل كان أشد، إذ وصل الأمر في 25 فبراير 2016، حد “وقف الاتصال” مع مؤسسات الاتحاد، بسبب إصدار المحكمة الأوروبية قرارا بالإلغاء الجزئي لاتفاقية تبادل المنتجات الزراعية بين الجانبين، بسبب تضمنها منتجات قادمة من الصحراء.
شهدت العلاقات المغربية الصينية تطورا لافتا خلال سنة 2016، توجت بزيارة الملك محمد السادس إلى بكين يوم 12 ماي، وهذه الزيارة سبقها بعشرة أيام تصريح لوزارة التجارة الخارجية المغربية، قالت فيه إن الصين اقترحت على المغرب توقيع اتفاقية التبادل التجاري الحر بين البلدين، وقد أسفرت الزيارة عن توقيع 15 اتفاقية بين البلدين تهم البنوك والسياحة وبناء مصانع ومشاريع مشتركة في إفريقيا..
من 2016 إلى الآن.. تضاعف حجم المبادلات المغربية الصينية
رغم عودة الدفء إلى العلاقات بين المغرب وشركائه الكلاسيكيين، أمريكا والاتحاد الأوروبي، في سياق معين، إلا أن العلاقات بين المغرب والصين في شقها الاقتصادي مضت في التطور، حيث أعلن المغرب خلال شهر يناير 2022، أنه أول بلد إفريقي ينضم إلى مبادرة “الحزام والطريق” التي اقترحتها الصين من أجل ربط سبعين بلدا باستثمارات ضخمة لتطوير البنى التحتية للممرات الاقتصادية العالمية، وقد لخص وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة خلال زيارته للصين في شهر ماي الماضي، تطور العلاقات بين البلدين من سنة 2016 إلى الآن، حيث أكد أن الشراكة الاستراتيجية بين البلدين أثمرت نتائج ملموسة، إذ تضاعف حجم الاستثمار الصيني بالمغرب خمس مرات من سنة 2016 إلى 2023، بينما تضاعف حجم التبادل التجاري مرتين في نفس الفترة، بما يجعل الصين الشريك الأول للمملكة آسيويا، كما يبدو أن المغرب يعول على الصين بقوة في إنجاز أنبوب الغاز المغرب-نيجيريا، حيث استعرض مع نظيره الصيني وانغ يي، هذا المشروع.
وقد شهدت الآونة الأخيرة زيارات بين مسؤولي البلدين، تم خلالها التوقيع على اتفاقيات في قطاعات مختلفة، وفي هذا الإطار، بحثت وزيرة السياحة فاطمة الزهراء عمور، مع راو تشوان، نائب وزير الثقافة والسياحة الصيني، خلال شهر يونيو الماضي، سبل تعزيز التعاون السياحي بين البلدين، كما استقبل رياض مزور، وزير الصناعة المغربي في مارس 2024، وانغ وينتاو، وزير التجارة الصيني، الذي زار المغرب في الفترة بين 29 فبراير و2 مارس 2024، وقال مزور حينها إن المبادلات التجارية بين البلدين ارتفعت بأزيد من 50 في المائة، مما يجعل الصين ثالث أكبر شريك تجاري للمملكة وشريكها الأول على مستوى آسيا، بحجم مبادلات إجمالي بلغ 7.6 مليارات دولار في سنة 2022.
بلغ أقصى تقدم في العلاقات بين البلدين خلال الأيام الماضية، عندما عبرت الصين عن التزامها بعدم استقبال أي مسؤول أو تمثيلية من جانب جبهة البوليساريو، وذلك خلال القمة الإفريقية-الصينية خلال شتنبر الماضي، وقبل أيام، أعلنت الصحافة الإسبانية، تزامنا مع توقف الرئيس الصيني في جزر الكناري في طريق رحلته إلى ليما عاصمة البيرو، لحضور القمة الصينية الأمريكية اللاتينية، أن الصين تدرس فتح قنصلية لها بمدينة العيون المغربية. وبالتزامن مع هذا الخبر الذي روجت له وسائل الإعلام الإسبانية، قررت المجموعتان الصينيتان “ويهيان” و”تيان أن”، الانسحاب من مشروع الفوسفاط في منطقة تبسة، الذي كان يعد استثمارا بقيمة 7 ملايير دولار، ومشروعا واعدا لإنتاج الأسمدة في الجزائر، كما انسحبت من مشروع منجم غار اجبيلات بتندوف لاستخراج الحديد، وخلال مشاركة الرئيس الصيني في قمة بلاده مع أمريكا اللاتينية، أعلنت بنما عن سحب اعترافها بالبوليساريو، كما أكدت الإيكوادور سحب اعترافها أيضا من خلال إغلاق سفارة البوليساريو، ثم زار الرئيس الصيني المغرب في زيارة غير رسمية.
تأتي كل هذه التطورات، في ظل فوز دونالد ترامب بالانتخابات الأمريكية الأخيرة.. فكما هو معلوم، فإنه على الرغم من أن ترامب أعلن غير ما مرة عن احترامه للصين، وإعجابه بالرئيس الصيني شي جين بينغ، وأنه يفضل أن تكون علاقة البلدين جيدة، فإنه هدد بتصعيد حربه التجارية مع بكين، وفرض تعريفة جمركية بنسبة 60 % أو أكثر على السلع الصينية، كذلك، اقترح إلغاء وضع الصين التجاري كدولة أكثر رعاية، والتخلص التدريجي من جميع واردات السلع الأساسية منها، ومنعها من شراء الأراضي الزراعية الأمريكية.. هكذا اتسمت إدارة ترامب الأولى بعدم اليقين، وعدم القدرة على التنبؤ، والعداء تجاه الصين، وسعى ترامب بسرعة إلى تفكيك أسس العلاقة الاقتصادية بين واشنطن وبكين، ورفض الالتزام بسياسة الصين الواحدة، وأكد مرارا وتكرارا دورها المركزي في انتشار “كوفيد-19″، وأشار إليه في بعض الأحيان باسم “فيروس الصين”، وفرض عقوبات متكررة على الشركات الصينية، خاصة من خلال تقييد وصول “هواوي” إلى رقائق أشباه الموصلات وتعزيز الانفصال التكنولوجي…
في ظل هذا الوضع، يبقى السؤال مطروحا: كيف ستؤثر أمريكا على تطور العلاقات المغربية الصينية التي أصبحت واعدة وطموحة؟ هل من الممكن أن تضغط أمريكا على المغرب من أجل تقليص علاقاتها مع الصين، أم أن المغرب حر في سياسته الخارجية، خاصة وأن الصين تعتزم فتح قنصلية لها في العيون ؟