ملف الأسبوع | لماذا فشل رجال الأعمال المغاربة في خلق ثروة وطنية للجميع ؟
المتهمون الذين لا يستطيعون إثبات براءتهم
إن القارئ للتاريخ يجد أن من قاد التحولات الاقتصادية والسياسية، ومن أدخل العالم في ثورة التصنيع.. هم الطبقة البورجوازية أو رجال الأعمال، وأمس وعند فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية، منح هذا الأخير لإيلون ماسك، أغنى رجل في العالم، حقيبة وزارية من أجل القيام بإصلاحات في الإدارة الأمريكية، وكما هو معلوم، ففي الولايات المتحدة، كما هو الشأن لباقي البلدان المتقدمة، أصبح طبيعيا أن يترشح رجل أعمال لمنصب رئاسة البلد أو عضوية البرلمان أو تقلد منصب وزاري، بينما نحن في المغرب ما زال اللغط قويا حول وجود رجال الأعمال في البرلمان، أو تقلدهم مناصب وزارية، حيث عبر محمد شوكي، رئيس فريق التجمع الوطني للأحرار بمجلس النواب، بغضب مؤخرا، عن إصرار المعارضة على شيطنة رجال الأعمال الذين يتقلدون مناصب حكومية واتهامهم الدائم بتداخل المصالح، ويأتي هذا في وقت لا يكاد الحديث ينتهي هذه الأيام عن دخول المغرب موجة كبرى من التصنيع، سواء تعلق الأمر بالمدنية أو العسكرية..
ضمن هذه الورقة، مقارنة بين حضور رجال الأعمال المغاربة بين فترة الملكين الحسن الثاني ومحمد السادس، والدور الذي يمكن أن يلعبه الفاعل الاقتصادي في مرحلة التصنيع التي دخلها المغرب فعليا الآن.
أعد الملف: سعد الحمري
رجال الأعمال على عهد الملك الحسن الثاني.. الإحجام عن خلق صناعة وطنية
بعد الاستقلال، حاول المغرب الدخول في موجة تصنيع، لكن الرهان على القطاع الخاص كان بعيد المنال، لأن فترة الحماية لم تفرز رجال أعمال مغاربة بالمعنى الحالي، وعلى هذا الأساس قامت الدولة بعدة مبادرات، أهمها القيام بمهمات لجذب رجال الأعمال الأمريكان من أجل الاستثمار في بلادنا، حيث قام الأمير مولاي عبد الله، رفقة إدريس المحمدي، مدير ديوان الملك الحسن الثاني، خلال شهر دجنبر 1965 بزيارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل جذب رجال أعمال للاستثمار في المغرب، وبعد انتهاء الزيارة، استقبلهم وزير الخارجية الأمريكي وسأل الأمير مولاي عبد الله عما إذا كانت المهمة ناجحة أم لا.. يومها قال الأمير إنه يعتقد أنه قام ببعض الاتصالات.. فقد تم التوصل إلى اتفاق بين شركة “أوكسيدنتال بتروليوم” ومكتب الفوسفاط، كما أخبر نظيره الأمريكي بأنه تحدث مع شركة “أنترناشيونال جنرال إلكتريك” بشأن مصهر كهربائي للحديد لمصنع فولاذي مقترح بالقرب من الناظور.
أما وزير الخارجية الأمريكي، فقد صرح بأن الاستثمار الخاص يلعب دورا هاما في التنمية الاقتصادية، حيث أخبر الأمير أنه لاحظ خلال سنوات عمله مع مؤسسة “روكفلر”، أن أحد أهم العوامل التي تجعل رجال الأعمال الأمريكيين مهتمين بهذا المجال، هو تبادل المعلومات شفهيا، وهو ما كان يتم بشكل غير رسمي في النوادي وفي حفلات الغذاء، حيث كان قادة الأعمال يناقشون مناخ الاستثمار وإمكانياته، وعبر لمخاطبيه أنه من مصلحة المغرب تبني اتصالات شخصية مع رجال الأعمال الأمريكان، ومن جانبه، قال إدريس المحمدي: من المؤسف أن المغاربة رجال أعمال فقراء ولديهم أطر قليلة، ومع ذلك، لدى المغرب قانون استثمار ليبرالي، وهو ما ينبغي أن يشجع رجال الأعمال الأجانب على لعب دور كبير.
لم يجد المغرب حلا لمعضلة تشجيع القطاع الخاص، حتى قام الملك الحسن الثاني بمبادرة سنة 1973، ويتعلق الأمر بعملية المغربة، حيث حرر الاقتصاد الوطني من الهيمنة الفرنسية، وشجع رجال الأعمال المغاربة على شراء حصص الأجانب في المقاولات المغربية، غير أن عملية المغربة هذه خلقت مشكلة كبيرة للدولة، إذ ساهمت بشكل كبير في اتساع الفوارق بين طبقات المجتمع، حيث أصبحت هناك فئة تعيش في ثراء فاحش وأخرى فقيرة، وفي سنة 1978، طرحت الصحافة الفرنسية سؤالا على الملك وكان كالتالي: “إن تلك الفوارق الطبقية تصدم الزائر الأجنبي؟”، فكان جواب الحسن الثاني كما يلي: ((إنها تصدمنا نحن أنفسنا.. إن الشيء الذي يقلقنا هو هذه الفوارق التي ما فتئت تزداد اتساعا، إننا نأمل مشاهدة مؤسساتنا العمومية ومكاتبنا وشركاتنا التي لنا مصلحة في تحسينها وتبسيط سير أعمالها، تعمل بصورة فعالة، وأخيرا، سيكون مخططا للإنجازات نظرا لوجود غلاف مالي هام، سيكون على الأخص مخططا للإصلاح الإداري يمكن الأداة التي هي الدولة المدعوة إلى التدخل أكثر فأكثر وبسرعة وبدون مبالغة، ولكن بفعالية)).
ورغم استفادة رجال الأعمال من عملية المغربة.. إلا أن مبادراتهم ظلت محدودة في خلق صناعة وطنية حقيقية، كما أنهم لم يلجوا عالم السياسة، حيث ظلوا بعيدين عن المعترك السياسي، نظرا لحساسية النظام من مشاركة رجال الأعمال المغاربة في اللعبة السياسية، وبالأخص مساندة أحزاب المعارضة، وثانيا، استفادة رجال الأعمال المغاربة من الحماية الاقتصادية التي كانت توفرها لهم الدولة من خلال الترسانة القانونية، التي تمثلت على الخصوص في القوانين الجمركية وقانون مغربة المؤسسات الوطنية.
ورغم أن حبل الود، الذي كان الملك الحسن الثاني قد بدأ يمده لرجال الأعمال المغاربة، إلا أن ذلك لم يمنع من وجود بعض الصدامات، التي تجسدت في حملة التطهير الكبرى التي بدأت في منتصف سنة 1995، ورغم التجاوزات التي شابت العملية، إلا أن الحسن الثاني اعتبر أن الهدف منها هو أنه ((يتعين على رجال الأعمال والتجار ببلدنا، صغارا كانوا أو كبارا أو متوسطين، وأيضا رجال الصناعة، أن يدركوا أنه مع المنظمة العالمية للتجارة ومع اتفاقية الشراكة بيننا وبين أوروبا، سنكون خاضعين لقواعد جديدة تتمثل في التنافس والشفافية وحقيقة الأسعار والجودة.. إنها مسألة حياة أو موت بالنسبة لنا، ولهذا، فقد لفتنا الانتباه ربما بشيء من الشدة، إلى حالات واضحة بشكل صارخ كان يصعب غض الطرف عنها، لكننا نعتقد أننا قمنا في نفس الوقت بعمل بيداغوجي، ونأمل أن يفهم الجميع، وعلى أية حال، فقد استقبلت مسؤولي أوساط رجال الأعمال وشرحت لهم كل ذلك، وتحدثنا بكل صراحة، وطلبت منهم مساعدتي على القيام بهذا العمل البيداغوجي، لأننا لا يمكن أن ندخل المنافسة الدولية إذا لم نكن قادرين عليها، وإذا لم تكن لنا منتوجات ذات جودة، وإذا لم نكن نتحلى بالشفافية، ويتعين من حين لآخر التحرك على نطاق واسع، لينتبه الناس وينضبطوا)).
ويظهر أن المصالحة حصلت بين الملكية ورجال الأعمال المغاربة، فخلال حملة الاستفتاء على المراجعة الدستورية لسنة 1996، دعا الاتحاد العام لمقاولات المغرب أعضاءه إلى التصويت بـ”نعم” على المراجعة الدستورية لـ 13 شتنبر 1996، كما كانت هذه المرحلة دعوة صريحة إلى تغير عقلية رجال الأعمال المغاربة، وكانت الدعوة من الملك المستقبلي، أي الملك محمد السادس، الذي كان وقتها وليا للعهد، الذي صرح للصحافة الإسبانية سنة 1997، بأنه ((يجب على المنتجات المغربية والعقلية المغربية، بل وحتى على المغاربة أنفسهم، أن يصبحوا تنافسيين، ويجب تغيير هذه العقليات، وسيصبح من الضروري مسايرة الأوروبيين، فعلى سبيل المثال، يتعين على المقاولات المغربية أن تصبح أكثر جدية على مستوى الجودة، فإذا كنا نرغب في مسايرة أوروبا في هذا الوقت الذي يتم فيه الحديث عن توسيعها، فإنه يجب التذكير بأننا سنكون في الوقت ذاته شركاء ومتنافسين، وبالتالي، لا ينبغي تصور أوروبا كحصن، ولكن يجب تصورها ككيان منفتح)).
مبادرات من الدولة ونفور رجال الأعمال المغاربة من خلق صناعة وطنية
خلال نهاية التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، التي تميزت بنهاية عهد وبداية عهد جديد، نهاية مرحلة الحسن الثاني وبداية مرحلة الملك محمد السادس، بدأ رجال الأعمال المغاربة يقتحمون عالم السياسة، وأصبحت مشاركتهم علنية، وأخذ بعض رجال الأعمال يقبلون على تأسيس أحزاب سياسية وقيادتها، وهذا يعتبر طفرة نوعية في الحقل السياسي المغربي، نتيجة للتحفظ والحذر اللذين كانا يطبعان دائما مشاركتهم العلنية في المعترك السياسي، كما أن تخلي الدولة عن قبضتها الاحتكارية في مجموعة من القطاعات، من خلال خوصصة عدة مؤسسات عمومية، وتشجيعها على المبادرة الخاصة (التعليم الحر، المقاولون الشباب…)، وفسح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية.. قد أدى إلى خلق أرضية سوسيو-اقتصادية سمحت بتكوين شريحة اجتماعية تعتنق الليبرالية وتؤمن بقيمها الفكرية والمذهبية، وتتوفر على تكوين عصري من مستويات عليا، غير أن رجال الأعمال المغاربة اتجهوا خلال هذه المرحلة للاستثمار فقط في قطاع البناء، بينما أدت الاتفاقيات التجارية الحرة مع كل من الصين وتركيا إلى غلق معظم معامل وشركات النسيج وصناعات أخرى واستبدالها بالاستيراد من البلدين، وهو ما انعكس سلبا على استمرار عجز الميزان التجاري للبلاد والذي ظل دائما يسجل عجزا تجاريا في كل سنة.
ومع جائحة “كورونا”، التي أثبتت بالفعل ضرورة العناية بالصناعة المحلية، ما جعل وزارة الصناعة والتجارة والاقتصاد الأخضر والرقمي في سنة 2020، على عهد الوزير حفيظ العلمي، تطلق بنك مشاريع، وصلت قيمته إلى 34 مليار درهم، لدعم المقاولات التي ستصنع 83 مليار درهم من المنتجات محليا، وخفض قيمة المنتجات المستوردة من 183 مليار درهم سنويا إلى 100 مليار درهم، والسؤال المطروح هنا هو: ما الذي تحقق من هذه الإجراءات؟ ذلك أنه بعد أربع سنوات، لاحظنا أن العجز في الميزان التجاري للمغرب ما زال على حاله، كما أنه كان ينتظر من هذه المشاريع أن تخلق مناصب شغل جديدة من شأنها أن تقلص نسبة البطالة وسط الساكنة بنسبة مهمة، إلا أن الجواب مرة أخرى هو الصدمة.. فقد كانت أرقام المندوبية السامية للتخطيط صادمة للغاية حيث استمرت البطالة في الارتفاع.
فهل فضل رجال الأعمال لدينا الاستثمار في أبسط ما نستورده؟ لا يبدو ذلك انطلاقا مما قدمنا، وهل فشلت المبادرة التي أطلقتها الدولة في سنة 2020 مع العلم أن قيمة الدعم كانت كبيرة؟ هذا ربما يحتاج لمساءلة.. وعلى نقيض ذلك، نرى تسارع رجال الأعمال المغاربة للاستثمار في قطاع ما يطلق عليه “الصناعات الأساسية”، أي صناعة السيارات، ومؤخرا رأينا شركات مغربية ضمن المعرض الدولي للطيران الحربي بمراكش، يعرضون طائرات “درون” انتحارية مغربية الصنع، بمعنى أن هناك توجها للاستثمار في الصناعة الحربية، وهي أحد المشاريع الواعدة الكبرى التي اقتحمها المغرب مؤخرا والتي يعول عليها مستقبلا.. فهل نرى أنفسنا نكرر تجربة بعض الدول التي كانت لها تجارب خلال سبعينات القرن الماضي التي أغفلت الصناعة الاستهلاكية البسيطة واتجهت إلى الصناعة الأساسية أو الثقيلة وفشلت فشلا ذريعا ومنها الجارة الجزائر ؟
فهل نحتاج تقييما حقيقيا للتجربة المغربية ومحاولة بناء نموذج جديد قائم على تشجيع الاستثمار في الصناعات الاستهلاكية حتى تصبح لدينا صناعة وطنية، فعلى سبيل المثال، المغرب رائد في مجال تصبير السمك، غير أنه غير قادر على إنتاج العلب التي يوضع فيها السمك المصبر، بل يشتريها من الخارج، ومثال آخر، المغرب رائد في إنتاج الحوامض، غير أنه ليست لديه صناعة غذائية، ما يجعله يصدر الحوامض كمادة خام ثم يستوردها من جديد على شكل مواد مصنعة وبالعملة الصعبة.. أليس من الأجدر إعادة التفكير في هذه الأمور البسيطة من أجل خلق مئات الآلاف من فرص الشغل ؟