نافذة على الصين | “شيان”.. دولة “إمبراطور الموت” الذي وحد الصين وأسس السور العظيم
الحلقة 04
لا يمكن الحديث عن القوى العظمى في العالم الحديث دون الحديث عن دولة “الصين الجديدة”.. فما حققته من إنجازات عملاقة مدنيا وعسكريا واجتماعيا وإداريا، كان مجرد “حلم صيني” بعد سنوات من القهر والحرمان والاستعمار.. ولكن اتباع النظام لسياسة “الإصلاح والانفتاح” بعيدا عن نموذج “التعلم من الدول الغربية”، جعل “الباندا” الصينية، التي لا تفضل السبات بخلاف باقي أنواع الدببة.. تنهض من جديد لتفرض قوتها الناعمة على العالم، إما بـ”خيوط من حرير” أو بتوازنات دبلوماسية وعسكرية كبرى، وفوق كل ذلك، فقد وصلت البلاد إلى أحد أقوى أنواع التماسك الاجتماعي، قوامه أكثر من مليار و400 مليون نسمة، خرجوا ليصدروا ثقافتهم إلى العالم منتصرين على الفقر والجهل والاستلاب المعرفي والثقافي.. وهي المعركة المتواصلة منذ زمن المؤسس ماو تسي تونغ إلى زمن الرئيس شي جين بينغ.. فيما يلي تنقلكم “الأسبوع” إلى قلب التجربة الصينية عبر هذه النافذة الأسبوعية..
إعداد: سعيد الريحاني
تخيل آلاف الجنود بلباسهم الإمبراطوري المميز، وأدرعهم، ورماحهم جاهزة.. مرابضين في خنادقهم مستعدين للمعركة، ولا يتحرك لهم جفن منذ آلاف السنين، والهدف هو حماية الإمبراطور.. لولا أن هذا الجيش “جيش من فخار” (صلصال)، والمعركة التي كان يتم الاستعداد لها لم تكن معركة من أجل الحياة، بل معركة لما بعد الموت(..)، فهذا الجيش الإمبراطوري والأسطوري، الذي يرابط إلى اليوم في مدينة شيان الصينية، هو الجيش الذي أمر بتأسيسه إمبراطور سالف الزمان، المرعب تشين شي هوانغ، الذي تولى العرش في الصين القديمة وعمره لا يتجاوز 13 سنة.. قبل أن يتحول في ظرف سنوات قليلة إلى أقوى إمبراطور في التاريخ، ولا زالت بعض قواعده سارية المفعول إلى اليوم، وكيف لا يكون ذلك وهو صاحب نظرية “القانونية” التي تسمى اليوم عمليا “المركزية”.
كل هذه المعلومات لم أكن أعرف منها سوى الطريق إلى مدينة شيان، وهي مدينة تبعد عن العاصمة بيجين بحوالي ساعة ونصف عبر الطائرة(..)، وهي المدينة التي تمثل روح الصين العظيمة، الضاربة جذورها في القدم.. فهذه المدينة كانت هي العاصمة، وهي أول مدينة في العالم يتجاوز عدد سكانها مليون نسمة في ذلك الزمن الغابر، وكان أهلها يتعاطون التجارة بكثرة، وقد باتت اليوم قبلة لملايين الزوار من شتى أنحاء العالم، لاحتوائها على أعجوبة الدنيا الثامنة، وهي مقبرة الإمبراطور تشين شي هوانغ، الذي يحسب له في كل الأزمان توحيده للمماليك المتناحرة في الصين تحت لواء واحد، كما يحسب له توحيد الكتابة والأختام والنظام الإداري.. بل إنه أسس أول دولة مركزية قوية، وإذا كانت مقبرته تحتل المرتبة الثامنة في تعداد عجائب الدنيا، فهو مؤسس إحدى العجائب السبعة وهي سور الصين العظيم، الذي لازال شامخا وسط الطبيعة إلى اليوم، ويرمز إلى قوة النفوذ والحدود(..).
قصة هذا الإمبراطور تشكل في حد ذاتها عبرة عابرة للزمن، فقوة نفوذه جعلته يتجاوز “الأحلام الدنيوية” ليحلم بالخلود، لذلك فقد كانت رحلته الدائمة هي رحلة البحث عن علاج من أجل الخلود، بل إنه اعتقد بفعالية “السحر والشعوذة” لتحقيق ذلك، وكانت الأساطير والاعتقادات القديمة تقول إن خلط الزئبق والرصاص أو اللجوء إلى تأملات معينة ونظام غذائي معين – وفق اعتقادات بائدة – يمكن أن يحقق لصاحبه الخلود، ولكن “إكسير الحياة” كان هو نفسه السم القاتل الذي قتل الإمبراطور في ريعان شبابه، ولأن مفعول “السحر” لم يتوقف، فقد قتل هذا الإكسير المزعوم فيما بعد أكثر من إمبراطور آخر، والنتيجة كانت موعدا مع الموت..
وقفت مثل غيري من الزوار على حافة مقبرة الإمبراطور تشين شي هوانغ، وقد تحولت إلى متحف كبير يضم عدة مرافق مجهزة بأحدث الوسائل، وتتميز بطرق عرض مبتكرة وذكية.. وكانت طوابير الجنود المصنوعين من الفخار تمنح رهبة خارقة للمكان، بينما كانت رائحة الطين المنتشرة في هذا الفضاء كافية لنقل الزائر في رحلة عبر الزمن إلى زمن الطين.. والقوة البدنية الهائلة، ومن غرائب المكان الذي لم يكتشف إلا حديثا، سنة 1974، أنه يضم أيضا مجسمات للدواب وللعربات المجرورة، وكان ذلك تنفيذا لرغبة الإمبراطور الذي أمر ببناء أكبر مقبرة له وهو لا زال على قيد الحياة، واشترط صنع تماثيل الجنود بشكلهم الحقيقي، كما أمر بـ”تجسيم” العربات المجرورة، وكان يعتقد أن هذا الجيش العرمرم، المكون من 8000 جندي، كلهم مصنوعين من الصلصال، سيرافقونه إلى مستقره الأخير(..).
مثل غيره من “الدكتاتوريين”، و”الدكتاتورية” في الصين ليست كلمة قدحية بالضرورة، لأنها ترمز إلى صرامة الشعب في مواجهة الفئات الرجعية(..)، عاش هوانغ طفولة صعبة، ولم يكن ليصل إلى العرش لولا الظروف، وأصول والدته.. التي أصبحت ملكة بعد سلسلة أحداث درامية متضاربة، تتراوح بين منطق التاريخ، والإشاعة.. فكانت طريقه إلى العرش عبر المصاهرة، مرورا بولاية العهد، حيث سلم له العرش وهو صغير السن، ليتم التحكم فيه من وراء الستار، ولكنه ما إن بلغ أشده في سن 21، حتى تحدث لغة الإعدامات لكل من سولت له نفسه التآمر على الإمبراطورية، والبداية كانت بأقرب مقربيه، بل إن اللقب الذي أطلقه على نفسه، وهو اللقب الذي اشتهر به، يعني في لغة التداول الصينية “أول إمبراطور ذو سيادة”، وقد حرص على تشريف نفسه بهذا اللقب، لأنه وضع حدا لمئات السنين من الاقتتال بين عدة قوميات وسبعة مماليك، ولكن الحروب وإن كانت مدمرة للإنسان، فإنها كانت سببا في تطور استعمال المعادن، والأنظمة العسكرية، وخطط الحروب، وأدوات الحرب، والتقسيمات الإدارية.. لأن كل ملك كان يحاول إبداع نظام شامل للحكم، ولكن مملكة “شيان” انتصرت في النهاية، وأصل التسمية هو تحريف تاريخي لكلمة “تشين” التي تعني “الصين”.
تمثل مدينة شيان اليوم، عاصمة روحية للصين القديمة، بل إن الناس يقولون: “إذا كانت عندهم روما في الغرب، فعندنا شيان في الشرق”، وإذا ذكرت هذه المدينة اليوم، فإنك ستتحدث لا محالة عن مينائها، الذي تنطلق منه آلاف قطارات الشحن كل سنة في اتجاه العالم، منها 5000 على الأقل تتجه كل سنة إلى أوروبا، بعد أن تم ابتكار نظام خارق للشحن والتفريغ لا مثيل له في العالم..
في مدينة شيان، يمكن للزائر، إذا سمحت له الظروف، الوقوف على واحد من المنشآت الصناعية العملاقة لمجموعة “جيلي” بقدرة إنتاجية خارقة، حيث يتم تصنيع السيارات مثل تصنيع “البسكويت”، وتساهم “الربوتات” الضخمة في الإنتاج بشكل سلس، ويمكن الوقوف بعين المكان على التحديات الجديدة لهذه الشركة العملاقة، ومنها إنجازها على أرض الميدان للسيارات الكهربائية والسيارات الذكية، ما يؤشر على القوة التنافسية للصين في المرحلة القادمة، بعد رفع شعار “التنمية عالية الجودة”، بتوجيهات مباشرة من الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي يقود الدولة، والمجتمع، والحزب الشيوعي الصيني(..).
بشوارعها النظيفة، وبناياتها العملاقة، وعدد كبير من الجسور والقناطر، تقف شيان مزدهرة أمام العالم ببنائها الحضاري الفريد، وقدرتها على الجمع بين التاريخ القديم، ومعالم الحضارة الجديدة، وإلى اليوم، ما زالت شيان تستقبل ضيوفها بأضواء وألوان متوجهة في السماء وعروض إمبراطورية ضخمة، ضمن القلاع القديمة، حيث يقف السياح مشدوهين أمام الأنوار الملونة التي تضيء سماء المدينة ليلا.. وهنا توجد أحسن المهرجانات المحلية في العالم، حيث أن المسؤولين الصينيين يصرون على ربط كل مدينة بتاريخها، لذلك، لا عجب أن ترى الإمبراطور يخرج بنفسه في عروض ضخمة ليروي للزوار قصة الصين القديمة(..)، وفي حالة الإمبراطور تشين شي هوانغ، فما زالت القصة تروى لجيل بعد جيل كدلالة على عظمة هذا الإمبراطور وجيشه، وليس غريبا أن تلجأ وسائل الإعلام الغربية إلى محاولة تشويه تاريخ هذا الإمبراطور، في مواجهة مع الزمن والتاريخ.. وكأن جيشه جاهز فعلا لحرب جديدة ضد الغرب، رغم أنه “جيش من طين”.. إنه “خوف الأحياء من الأموات”، وما زال الإمبراطور تشين شي هوانغ حيا رغم موته(..).