ملف الأسبوع | هل ترخي أزمة تشكيل الحكومة في فرنسا بظلالها على قضية الصحراء ؟
لعنة اليسار الفرنسي..
قدر المغرب أنه وقع بين كماشة الحسابات الداخلية للقوى الدولية الوازنة.. فما إن تنتهي الانتخابات في دولة ذات وزن دولي ويتنفس معها المسؤولون المغاربة الصعداء.. حتى تظهر حسابات سياسية جديدة في بلد آخر، تجعل الرأي العام المغربي متابعا لتلك الانتخابات بقوة وما ستؤول إليه، والقوى التي ستشكل الحكومة الجديدة، وهل هي مؤيدة لمصالح المغرب أم لا؟ وبذلك يجد المغرب نفسه دائما في دوامة ما ستسفر عنه صناديق الاقتراع ومن سيشكل الحكومة، كما هو الحال خلال السنة الماضية في إسبانيا، وما يحدث اليوم في فرنسا، ويحاول هذا الملف مقاربة مدى تأثير الأزمة السياسية الفرنسية جراء تعيين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لليميني ميشال بارنييه رئيسا للوزراء، ومدى صدى ذلك على المغرب، وخاصة قرار قصر الإليزيه يوم 30 يوليوز الماضي القاضي بالاعتراف بمغربية الصحراء ودعم خطة الحكم الذاتي.
أعد الملف: سعد الحمري
دعم المغرب لليسار في إسبانيا مقابل معاداة اليمين
تكمن مشكلة المغرب في علاقته بالدول المؤثرة في الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها فرنسا وإسبانيا، في أنه غير متحالف مع إيديولوجية واحدة، إذ يمكن ملاحظة بسهولة أنه في إسبانيا له مصالح ومتحالف مع اليسار بزعامة الحزب الاشتراكي على الدوام، وذلك منذ عودة الملكية في إسبانيا، وأن أصعب الأيام هي التي عانى منها أيام صعود اليمين الإسباني إلى الحكم بقيادة خوسي ماريا أثنار، ما بين سنوات 1996 و2004، عندما كادت العلاقات بين المملكتين أن تدخل في نفق مسدود، وبالتالي اندلاع حرب بين البلدين بسبب أزمة جزيرة ليلى، ويرى ملاحظون أن المغرب له أزمة مع اليمين الإسباني بسبب عقدة هذا الأخير التاريخية مع المغرب، لذلك لاحظنا خلال السنة الماضية عندما أعلن في إسبانيا عن إجراء انتخابات تشريعية مبكرة، والتي فاز خلالها اليمين بفارق طفيف، وهو ما كانت له ارتدادات قوية في المغرب، حيث وقف أهل الحل والعقد في المغرب مشدودين من هذا التطور الجديد، علما أن تشكيل حكومة يمينية كان من الممكن أن يطرح سؤال موقف الحكومة الإسبانية الجديدة من القرار الذي اتخذه بيدرو سانشيز من مسألة الصحراء في أبريل 2021، وانتظر الرأي العام المغربي ما ستسفر عنه مداولات تشكيل الحكومة الإسبانية، حيث عين العاهل الإسباني فيليبي السادس، يوم 22 غشت 2023، زعيم اليمين ألبيرتو نونيس فيخو لتشكيل الحكومة، وعلل الملك اختياره بكون هذا الأخير تمكن حزبه من الفوز بأكبر عدد من المقاعد في البرلمان الإسباني.
وخلال المداولات، تابع الرأي العام الداخلي بالمغرب، ما يجري بإسبانيا وكأنه يقع بالمغرب، ولم يتنفس المسؤولون الصعداء إلا عندما فشل فيخو في تشكيل الحكومة، يومها كلف العاهل الإسباني – في مشهد دراماتيكي – بيدرو سانشيز، الذي أصبح صديق المغرب، بتشكيل الحكومة يوم 3 أكتوبر وأعطاه مهلة تمتد إلى يوم 27 نونبر، وبعد مشاورات ومداولات، تمكن هذا الأخير من تشكيل الحكومة بعد موافقة البرلمان عليها.
ولم يستقر الحال في إسبانيا ومعها المغرب إلا مدة خمسة أشهر حتى تفجرت فضيحة جديدة في شهر أبريل من السنة الحالية، بسبب تورط زوجة بيدرو سانشيز في قضية فساد، عندها أعلن هذا الأخير أنه يفكر بشكل جدي في تقديم استقالته، ومعنى ذلك فسح الباب واسعا لصعود اليمين إلى الحكم وبداية محنة جديدة للمغرب، أقلها حالة الانتظار من موقف الحكومة الجديدة من إعلان أبريل 2021 القاضي بدعم إسبانيا لمخطط الحكم الذاتي في الصحراء، إلا أن إعلان سانشيز عن استمراره في منصبه رغم فضيحة زوجته، أوقف الجدل، وأعفى الرباط من ملف جديد قد يؤرقها حينا من الدهر..
دعم المغرب لليمين في فرنسا على حساب اليسار
لم تكد الأحداث المتسارعة في إسبانيا بشكل دراماتيكي تنتهي.. حتى ظهرت تحولات جديدة في جارتها فرنسا، تنذر بأن تحولا سيكون له وقع على المغرب إيجابا أو سلبا، فبعد فوز اليمين المتطرف بالانتخابات البلدية، أعلن الرئيس الفرنسي عن إجراء انتخابات تشريعية مبكرة، ودعا إلى الوحدة في وجه صعود اليمين المتطرف، وبعد جولتين من الانتخابات، أعلن في مفاجأة مدوية عن فوز اليسار بالانتخابات التشريعية دون أن تكون له الأغلبية المطلقة، وهنا يكمن الفرق بين واقع فرنسا وإسبانيا وعلاقة المغرب بهما، فالمغرب يحظى بدعم من اليسار في إسبانيا ويعادي يسار فرنسا، بينما يحظى بدعم اليمين في فرنسا ويعادي اليمين الإسباني.
بعد فوز اليسار في فرنسا، حدثت مفاجأة غير منتظرة، وذلك عندما أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عن تكليف اليميني ميشال بارنييه بتشكيل الحكومة الفرنسية المقبلة، مع العلم أن الرجل له تجربة سياسية كبيرة وهو البالغ من العمر 73 عاما، حيث كان هو مفاوض الاتحاد الأوروبي في السابق في ملف “بريكست”، ومن هنا بدأت أزمة فرنسية عميقة، حيث أعلن اليسار الفرنسي رفضه لهذا التعيين، لأن حزب ميشال بارنييه حصل على المرتبة الرابعة في الانتخابات التشريعية الفرنسية المبكرة.
وفي ذات السياق، أعلن حزب “فرنسا الأبية” بزعامة جان لوك ميلونشون، الذي يمثل أقصى اليسار، أنه سيسعى إلى دفع الكتل البرلمانية نحو التصويت من أجل عزل رئيس الجمهورية عن الحكم، ولم تلق هذه الخطوة في البداية دعم باقي أحزاب اليسار، حيث أعلن كل من الحزب الاشتراكي وحزب الخضر، عن نيتهما رفض الاقتراح، إلا أنهما غيرا موقفهما وأكدا بأنهما لن يعترضا على طرح مناقشة أي نص على مستوى مكتب الجمعية الوطنية لعزل ماكرون، ورغم أن العديد من المراقبين يلاحظون أنه من الممكن أن توافق الجمعية العامة الفرنسية على هذا المقترح من أجل التصويت عليه، إلا أن مسعى عزل الرئيس لن يتحقق، ومن أبرز العقبات التي تواجهها هذه الفرضية، المادة 68 من الدستور الفرنسي، إذ تستوجب موافقة ثلثي أعضاء الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ مجتمعين. ويرى عدة خبراء أن دستور الجمهورية الخامسة الذي أقر عام 1958 وكتب على أساس نظام انتخابي تنتج عنه أغلبية واضحة، غامض بشأن المسار الذي يمكن اتخاذه في حال تعطل العمل البرلماني.
لا شك أن المغرب يتابع ما يحدث في فرنسا باهتمام بالغ، لأن علاقته مع اليسار الفرنسي ليست بالجيدة، كما يتمنى بقاءه بعيدا عن القرار الفرنسي على الأقل خلال هذه المرحلة، ونعلم جيدا أن المغرب واجه مشكلة كبيرة مع فرنسا بعدما تقلد الاشتراكيون في فرنسا الحكم لأول مرة سنة 1981، يومها غيرت فرنسا بوصلة تحالفاتها من المغرب إلى الجزائر، وأول إجراء اتخذه الحزب الاشتراكي الفرنسي، الذي أصبح يتوفر على أغلبية برلمانية، هو الدعوة إلى تقرير المصير في الصحراء، وهو المطلب الذي كانت تنادي به الجزائر وجبهة البوليساريو، وقد كان هذا الأمر بمثابة المنعطف في علاقة الرباط بباريس.
يومها علق الملك الحسن الثاني على هذا الإجراء بالقول: ((ليس من الحكمة الخلط بين وضعية داخلية فرنسية وقضية إفريقية.. لقد غيرت فرنسا رئيسها، ولكنني لا أظن أنها غيرت سياستها حيال إفريقيا، وإضافة إلى ذلك، وفيما يرجع للصحراء، لا أظن أن الرئيس جيسكار ديستان والرئيس الحالي فرانسوا ميتران يختلفان في اعتبار أن المشكل يتطلب حلا سياسيا، لقد كان الرئيس السابق يؤكد لي وجوب إيجاد حل في إطار إفريقي، أضف إلى ذلك، أن الأفارقة أظهروا اقترابا أكثر إلى الواقع، فلو قاموا بتحليل الطبيعة الحقيقية للبوليساريو كمنظمة تحرير، لكانوا قد فهموا أنه لا يتوفر على المعطيات التي تعرف بها منظمات التحرير، ولو عادوا إلى الوراء بضع سنوات، لاتضح لهم أن البوليساريو ظهرت كمنظمة تحرير بعد انسحاب الإسبانيين من المنطقة، ونتيجة لذلك، لم تطلق رصاصة واحدة ضد أي جندي إسباني، وأخيرا، كان على الأفارقة أن لا يتركوا لدول أخرى غير إفريقية إمكانية التدخل والاستقرار في القارة… وأكاد أكون على يقين بأنه خلال الاتصالات التي ستتم بيننا، سواء مباشرة أو بكيفية غير مباشرة، فإن الرئيس ميتران يعرف أنه يتكلم من موقع قصر الإليزيه وليس من شارع سولفيرينو، وهذا شيء مهم، خاصة وأن الأمر يتعلق برجل عرف بخبرته السياسية)).
ورغم دعوة الحزب الاشتراكي.. إلا أن قرار فرنسا الرسمي بخصوص قضية الصحراء كان مغايرا لدعوة الحزب، عندها تنفس المغرب الصعداء، وعلق الملك الحسن الثاني على ذلك بالقول: ((الحقيقة أن القلق الذي خامرني غداة تغيير رئيس الجمهورية، لم يكن مصدره رئيس الجمهورية نفسه، ولكن حزبه أو أجنحة من حزبه كانت لها مواقف مجسمة بذهابها إلى الجزائر والتقائها ببعض الأشخاص، إنني كنت أعلم علم اليقين بخصوص ميتران – وأنا أعرفه منذ سنة 1956 – إن السيد ميتران المعارض لن يكون هو السيد ميتران رئيس الجمهورية الفرنسية، ثم إن هذا القلق والارتباك أو الشك، لم يدم سوى بضعة أيام ثم سجلت فرنسا موقفها في رسالة من أربع صفحات واضحة لا تردد فيها بخصوص موقف الحكومة الفرنسية، وكنت فعلا أخشى أطرافا معينة من الحزب الاشتراكي، لكنها أطراف ليست من الدرجة العليا)).
ورغم ذلك، شهدت علاقات المغرب وفرنسا خلال هذه المرحلة عدة توترات حادة أبرزها موقف فرنسا من قضية حقوق الإنسان بالمغرب وعلى رأسها قضية اعتقال قادة حزب الاتحاد الاشتراكي المغربي ومن ضمنهم عبد الرحيم بوعبيد سنة 1984، حيث وصف ميتران ما يقع بالمغرب بأنه اضطهاد للمعارضة اليسارية، كما حدث توتر آخر وصل إلى حد سحب السفير الفرنسي من المغرب، وازدادت حدة هذه الأزمة استفحالا عقب نشر كتاب “صديقنا الملك”، للصحافي جيل بيرو، ما جعل الأجواء تتوتر أكثر بين الرباط وباريس.
كانت هذه بعجالة أحد مشاكل المغرب مع اليسار الفرنسي بزعامة الحزب الاشتراكي، ومن تم أصبح اليسار في بلاد الأنوار يشكل عقدة بالنسبة للمغرب، فهل يشكل حزب “فرنسا الأبية” استمرارا لذلك؟ لا شك أن اليسار الفرنسي سيعمل على الأقل على ابتزاز المغرب خلال وجوده كأغلبية برلمانية، خاصة في قضية الصحراء.. فقد أصدر الحزب الاشتراكي الفرنسي بلاغا بعد رسالة إيمانويل ماكرون إلى الملك محمد السادس بمناسبة عيد العرش، استعمل فيه مصطلح “تقرير المصير” وهو يحاول إدانة الموقف الفرنسي الجديد بخصوص قضية الصحراء المغربية، معتبرا إياه “تحولا دبلوماسيا متسرعا دون استشارة البرلمان”، مع العلم أن حزب “فرنسا الأبية” كان له موقف سابق مؤيد للمغرب، وذلك عندما زار زعيم الحزب جان لوك ميلونشون المغرب خلال زلزال الحوز، وأعلن دفاعه عن سيادة المغرب على صحرائه، إلا أن المتغيرات الجديدة قد تدفعه إلى تبني موقف الحزب الاشتراكي الفرنسي وممارسة ضغوط على المغرب.
أضف إلى ذلك تحولات أخرى تجري على الساحة الدولية لعل أبرزها ما يقع في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تتقدم المرشحة الديمقراطية كمالا هاريس على المرشح الجمهوري دونالد ترامب في استطلاعات الرأي الأمريكية، وهي التي هنأت الرئيس الجزائري فور فوزه بالانتخابات الرئاسية، في إشارة واضحة إلى دعم هاريس للجزائر في حال فوزها في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
وعلى سبيل الختم إلى ما يمكن أن تؤول إليه الأمور، جاء في جريدة “الأسبوع” في عدد 13 شتنبر 2024 ما يلي: ((.. فبعد يوم واحد من تهنئة أمريكا لتبون، ورغم اختلاف أوروبا مع أمريكا في العديد من الأمور، سارع عشرات البرلمانيين الأوروبيين إلى مراسلة جوزيف بوريل، الممثل السامي للاتحاد الأوروبي، منددين بالتغيير والتوجهات السياسية الفرنسية فيما يخص ملف الصحراء التي أبداها ماكرون في يوليوز الماضي لصالح المغرب، لتطير في نفس اليوم آن كلير لوجوندر، مستشارة الرئيس الفرنسي ماكرون، إلى شمال إفريقيا والشرق الأوسط، من باريس إلى الجزائر، للقاء تبون و”ترطيب الأمور” في ظل الأزمة الدبلوماسية بين البلدين، الناتجة عن قرار فرنسا دعم المغرب في سيادته على أقاليمه الجنوبية، فهل هذا التسلسل المؤشر على انقلاب الأدوار من محض الصدف؟ لا أظن!)).