تحقيقات أسبوعية

تقرير | التدبير المفوض للنظافة.. الملايير ضائعة والصفقات فاشلة

هل يكمن الحل في الاعتماد على الجماعات ؟

لا زال موضوع التدبير المفوض لقطاع النظافة بالمغرب يخلق الجدل ويطرح مجموعة من الاستفسارات حول فشل التجربة رغم تعدد وتعاقب الشركات الموكل إليها تدبير النفايات، ورغم تنظيمه بالقانون رقم 54.05، الذي جاء ليؤطر ويحدد مهام ومسؤوليات الشركات التي تفوز بصفقة تدبير النفايات بعد عقد يجمعها بالجماعة الحضرية، لكن الملاحظ أنه رغم القوانين المحددة لعمل هذه الشركات إلا أنها لم تنجح أو أنها تتملص من مسؤولياتها في تدبير قطاع النظافة، بدليل نتائجها على أرض الواقع التي تؤكد عدم جدية هذه الشركات في عملها باستثناء أحياء بعينها ولا نقول مدنا معينة، وكذا كثرة الاحتجاجات العمالية نتيجة عدم احترام الشركات للقانون الأساسي الذي يجمعها بالمستخدمين..

بقلم: جميلة حلبي

    مناسبة التطرق لهذا الموضوع القديم الجديد، هو الغضب والجدل الذي رافق فوز شركة “أرما” لصاحبها يوسف أحيزون، ابن عبد السلام أحيزون، الرئيس المثير للجدل اعتبارا للفشل الذي تحصده الجامعة الملكية لألعاب القوى، التي يترأسها منذ سنة 2006 والرئيس الخالد لمجموعة “اتصالات المغرب”، (فوزها) بصفقة تدبير قطاع النظافة بمدينة الجديدة، حيث احتجت المعارضة بالمجلس الجماعي لكون هذه الصفقة التي نالتها شركة نجل أحيزون، تجهل أي معلومات حولها وأيضا قيمتها، هذا في الوقت الذي تحدثت فيه مصادر إعلامية عن كون قيمة الصفقة بلغت 50 مليون درهم سنويا، وهو ما اعتبرته المعارضة الجديدية مخالفا لما تنص عليه وزارة الداخلية باعتبارها الوصية الأولى على قطاع التدبير المفوض، والأمر نفسه ينطبق على “أرما” بعدد من المدن آخرها مدينة إفران، تلك المدينة التي ظلت على مر السنين تنال لقب “أنظف مدينة” حتى التفّت حولها شركة “أرما” وجعلت روائح شوارعها نتنة(…) وهذا موضوع آخر، والتي ما إن تنال صفقة لتدبير قطاع النظافة حتى تثار حولها زوبعة من الاحتجاجات الرافضة لتسلم شركة أحيزون زمام أمور تدبير النفايات، والأمر ذاته ينسحب على كل الشركات التي طبقت تجربتها في المغرب رغم تنظيم القطاع بعقود ودفاتر تحملات تضم بين طياتها ترسانة من القوانين التي تنظم عمل الشركات ومجموعة من الحقوق والواجبات تجاه الدولة وتجاه اليد العاملة، ليبقى التساؤل مطروحا منذ مدة: من المسؤول عن متابعة هذه العقود في الجماعات الترابية؟ ومن هي الجهة المختصة بالفصل في مثل هذه الحالات؟ وغيرها من الأسئلة التي لا زالت بدون أجوبة في ظل عدم تمكن هذه الشركات من القيام بعملها على الوجه المتفق عليه، فنحن لا نعيب القوانين التي تتخذها وزارة الداخلية في هذا الباب، لكن الإشكال يكمن في عدم استجابة شركات النظافة للانتظارات البسيطة للمواطنين، والتي تتمثل في شوارع وأحياء نظيفة على الدوام، والعمل بشكل منتظم حتى لا تتكدس النفايات المنزلية وغيرها فوق حاويات الأزبال، وبالتالي إضرارها بالبيئة وبصحة الجميع، وتسيء للمنظر العام ولصورة المدن.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن القصور في ممارسة سلطة الرقابة له الدور الكبير في تغول شركات التدبير المفوض حتى أصبحت تفرض وجودها على الدولة المستقبلة دون الالتزام بالاتفاق الموقع بين الطرفين، ذلك أن ما يوجد على أرض الواقع من تجاوزات واختلالات في تدبير مرفق النظافة، يتنافى مع ما هو موجود في القانون الصادر في موضوع تدبير المرافق العمومية، ومن ذلك الظهير الشريف رقم 1.06.15 الصادر بتاريخ 14 فبراير 2006 بتنفيذ القانون 54.05 المتعلق بالتدبير المفوض للمرافق العمومية، وهو يقنن التعاون بين القطاع العام والخاص في تدبير هذا المرفق العمومي.

تتمة المقال تحت الإعلان

كما أن المشرع تطرق في الباب 12 من دستور 2011، “باب الحكامة الجيدة”، لمجموعة من المعايير التي يجب أن تؤطر تدبير المرافق العمومية، وينص الفصل 154 في فقرته الثانية، على أنه ((تخضع المرافق العمومية لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية، وتخضع في تسييرها للمبادئ والقيم الديمقراطية التي أقرها الدستور))، غير أن هذه المعايير والمبادئ التي هي بمثابة آليات قانونية تحدد الإطار العام لتسيير المرافق العامة وبنود عقد التدبير المفوض قبل التنفيذ وبعده، بداية بطرح الصفقة العمومية مرورا باستفادة المواطنين من خدمات هذا المرفق وانتهاء بمدة العقد.. تبقى في الأغلب حبرا على ورق ولا يتم تطبيقها بالشكل المطلوب، وتشوبها مجموعة من الاختلالات، وتتحول هذه الشركات – بعدما تتمكن من الفوز بالصفقات – إلى سيف مسلط على رقاب سلطات الوصاية، تبتزها في كل حين بتزويد وتطعيم قيمة الصفقة عند كل تدخل من طرف الجماعات المحلية من أجل رأب الصدع الذي يحدث بين الشركة والمستخدمين، أو عند عدم القيام بواجباتها على النحو المتفق عليه في العقد، وهو الموضوع الذي تعالت بشأنه أصوات المواطنين وجمعيات المجتمع المدني والجمعيات الحقوقية، من أجل مراجعة طريقة التعاقد مع شركات تدبير قطاع النظافة، المرفق الخدماتي المرتبط ارتباطا وثيقا بالحفاظ على البيئة وبتدوير النفايات وطمرها بطرق علمية مضبوطة حتى لا تتسرب في الفرشات المائية، وحتى لا تحدث خللا في التوازن البيئي.. ففي البداية، كان مرفق النظافة موكولا للجماعات المحلية، حيث أناط المشرع المغربي بالجماعات الترابية مهام تقديم خدمات القرب في العديد من القطاعات الحيوية التي ترتبط بالمعيش اليومي للمواطنين، ومن ذلك ما جاء في المادة 83 من القانون التنظيمي رقم 113-14: ((تقوم الجماعة بإحداث وتدبير المرافق والتجهيزات العمومية اللازمة لتقديم خدمات القرب في الميادين التالية: توزيع الكهرباء والماء الصالح للشرب؛ الإنارة العمومية؛ النقل العمومي الحضري؛ التطهير السائل والصلب ومحطات معالجة المياه العادمة. ويتعين على الجماعة أن تعتمد عند إحداث أو تدبير المرافق المشار إليها، سبل تحديث في التدبير المفوض أو إحداث شركات التنمية المحلية أو التعاقد مع القطاع الخاص..))، وبالرجوع إلى المقتضيات المؤطرة لتدخلات الجماعات الترابية، وخاصة المادة 92 من القانون التنظيمي رقم 14-113 المتعلق بالجماعات، فإننا نجد عدة صلاحيات خولت للمجالس الجماعية القيام بالأعمال القمينة بتدبير مرفق النظافة وجمع النفايات المنزلية والنفايات المشابهة، بواسطة التداول في طرق التدبير المفوض لهذا المرفق.. فأين يكمن الخلل ما دام أن كل المدن تعاني جراء انتشار النفايات ومشاكل المطارح التي لا تنتهي وعدم قيام الشركات المفوض لها بعملها على الوجه الأكمل ؟

للإشارة، فقد ظهر التدبير المفوض في المغرب كممارسة قبل أن يظهر كقانون، عندما قامت المجموعة الحضرية للدار البيضاء بإبرام عقد تدبير مفوض مع الشركة الفرنسية “Lyonnaise des eaux” سنة 1997، حيث تكلفت الشركة بموجبه بتدبير قطاع توزيع الماء والكهرباء والتطهير السائل بولاية الدار البيضاء لمدة 30 سنة، وفيما بعد صدر القانون رقم 54.05 المتعلق بالتدبير المفوض للمرافق العامة ومنها تدبير قطاع النظافة.

تتمة المقال تحت الإعلان

لكن.. بعد هذه الترسانة من القوانين الموثقة والمؤطرة، حتى الجهات الرسمية أصبحت مقتنعة بعدم جدوى شركات التفويض، وهنا لا بد من أن نذكر بأن مجلس النواب كان قد أحال على المجلس البيئي والاجتماعي والاقتصادي، مذكرة مؤرخة في أبريل 2015، من أجل إنجاز دراسة حول التدبير المفوض للمرافق العمومية، وخرج بمجموعة من الملاحظات والتوصيات، كان أهمها الدعوة إلى إعادة النظر في نموذج التدبير المفوض من أجل تعزيز التماسك الاجتماعي في ظل هشاشة النظام القانوني وغياب الرقابة المالية والإدارية على هذا النوع من الشركات، كما أشار تقرير المجلس إلى أن لجنة التتبع لا تمارس صلاحياتها القانونية في فحص عمليات الصفقات والمشاريع والعقود في ظل وجود اختلالات في احترام دفتر التحملات مع طغيان منطق الربح في هذا النموذج الاقتصادي، كما سبق أن تطرق المجلس الأعلى للحسابات لموضوع التدبير المفوض وأكد في تقرير له أنه تشوبه مجموعة من الاختلالات التسييرية، ما يعني أن مشاكل التدبير المفوض في قطاع النظافة ليست وليدة السنة الماضية أو التي قبلها، وإنما هي مترسخة منذ أن بدأ الاشتغال بهذا النظام، وهو ما يؤكد غياب النجاعة في تدبير مرفق النظافة على المستوى الوطني وليس على مستوى مدينة واحدة أو اثنتين، فبالرغم من المجهودات التي تقوم بها الجماعات الترابية في تدبير هذا المرفق، إلا أن التنزيل على أرض الواقع لا زال يعرف عدة نواقص تسجلها الإدارة المسؤولة كما المواطن العادي، لذلك يجب احترام كل المراحل التي يمر منها التدبير المفوض لقطاع النظافة وجمع النفايات المنزلية والنفايات المشابهة قبل إبرام العقد، ويجب تعزيز القوانين الزجرية والضبطية عند مخالفة الشركات الفائزة بالصفقة لدفتر التحملات، كما يجب – وهذا هو الأهم – تعيين لجان خاصة تكون مهمتها المراقبة المستمرة على عمل الشركة وتتبع تنفيذها للمتفق عليه في الميدان، فالكل يعرف أن الشركة تعين مراقبين ميدانيين، لكن هذا لا يكفي، بل إن الجماعة الحضرية هي من يجب أن تكلف مراقبين يدونون كل إخلال بالعمل حتى لا تزيغ الشركة عن الأهداف المرسومة في عقد التفويض، وحتى لا تضيع مصلحة الدولة ومصلحة المواطن، الذي من حقه، باعتباره يدفع ضريبة النظافة، أن ينعم ببيئة نقية وصحية.

“دريشبورغ”، “أرما”، أفيردا”، “sos”، “تيكمد”، “أوزون”، وغيرها.. كلها أسماء لشركات التدبير المفوض في قطاع النظافة بالمغرب، تختلف الأسماء والعمل واحد، كلها دخلت بصفقات مثخنة بملايين الدراهم وكلها فشلت في تدبير القطاع، منها ما جمعت لوجستيكها ورحلت بعدما وصلت للباب المسدود مع السلطات المعنية بعد استنفاذ كل الحلول، ومنها من لا زالت جاثمة على أنفاس المغاربة.. فلماذا لا تعود الجماعات الحضرية إلى التدبير المحلي لمرفق النظافة وغيره من مرافق الخدمات العمومية التي تم تفويضها لشركات أجنبية دون مردودية؟ فالمجالس الجماعية تتمتع باستقلال مالي كما تتمتع بالشخصية المعنوية، لذلك فهي لا يمكن أن تتحرك من طرف جهة ما، والقانون هو الذي يحكمها، والجماعة حرة في إنهاء العقد مع الشركة المفوض لها تدبير القطاع إذا تبين أنها لا تحترم العقود التي تم التوقيع عليها في إطار احترام القانون وما يتضمنه العقد وما ينص عليه دفتر التحملات، كما أن وزارة الداخلية، وهي الجهة الوصية على المجالس الجماعية، لا يمكنها أن تصادق على أي عقد أو دفتر تحملات مخالف للقانون، وبالتالي، فإن الجماعات الترابية ترتكب في العديد من الأحيان أخطاء على مستوى صياغة عقود التدبير المفوض ودفاتر التحملات، وهذا راجع – ربما – لعدم استشارتها مع خبراء في المجال، وإذا اتضح لهذه الجماعات أن وزارة الداخلية لم تصادق على إحدى دفاتر التحملات أو إحدى عقود التدبير المفوض، فيمكنها أن تلتجئ إلى القضاء الإداري من أجل إلغاء هذا القرار، لكن في غالب الأحيان نجد رفض وزارة الداخلية وعدم مصادقتها على بعض العقود ودفاتر التحملات يكون منطقيا، وفي بعض الأحيان نجد أن هذه الجماعات تفتقر إلى الجرأة، إلا أن قانون 11 دجنبر 2001 كان أول قانون يعرف مفهوم تفويض المرفق العام كما يلي: ((تفويض المرفق العام هو عقد بمقتضاه يفوض الشخص المعنوي العام تسيير مرفق عام يكون تحت مسؤولية المفوض له عام أو خاص، يتقاضى رسوما من المنتفعين تكون لصيقة بنتائج استغلال المرفق))، والكرة الآن في ملعب الجماعات، ولها أن تعيد النظر في عقود التدبير المفوض للنظافة قبل فوات الأوان.

تتمة المقال تحت الإعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى