متابعات | هل تتحول المسطرة الجنائية إلى مدخل لإهدار حقوق المواطنين والدفاع ؟
المقتضيات الخطيرة بين الوصول إلى النيابة العامة وتحقيقات الشرطة
بعدما أثار قانون المسطرة المدنية، المصادق عليه من قبل البرلمان، الكثير من الجدل بسبب تقييد التقاضي وتقوية سلطة النيابة العامة على الدفاع، جاء مشروع قانون المسطرة الجنائية الذي صادقت عليه الحكومة بدوره ليخلق نقاشا وجدلا قبل عرضه على البرلمان للنظر في مقتضياته وبنوده، التي اعتبرتها فعاليات حقوقية تراجعية عن مشروع القانون السابق الذي طرحه الوزير السابق مصطفى الرميد.
إعداد: خالد الغازي
بالرغم من أن قانون المسطرة الجنائية جاء بمستجدات تخدم مصلحة المشتبه فيه أو المتهم، وضمان المحاكمة العادلة، والاتصال بالمحامي خلال الحراسة النظرية، وترشيد الاعتقال الاحتياطي، ومراقبة عمل الشرطة القضائية تحت متابعة النيابة العامة، وقنوات التواصل القضائي مع الرأي العام، ومراجعة ضوابط الحراسة النظرية وحق الاتصال بالمحتمي منذ الساعات الأولى من الإيقاف، وإخضاعها المشتبه فيه للفحص الطبي.. إلا أن الهيئات الحقوقية والقانونيين يرون أن المشروع لا يستجيب لتطلعات الحركة الحقوقية، ولم يتضمن إجراءات من شأنها ضمان المحاكمة العادلة، من خلال إلزامية حضور المحامي خلال مرحلة البحث التمهيدي وحضور الدفاع خلال بداية الحراسة النظرية وتسجيل التحقيق.
وترى فعاليات حقوقية، أن قانون المسطرة الجنائية جاء بمقتضيات خطيرة وصادمة عن مشروع القانون الذي سبق أن تم تداوله في البرلمان خلال عهد الحكومات السابقة، خاصة فيما يتعلق بمحاربة الفساد، مثل منع الجمعيات الحقوقية والمدنية من تقديم شكايات ضد المنتخبين وناهبي المال العام، بالإضافة إلى حرمان الدفاع من الحصول على ملف القضية والوثائق من عند قاضي التحقيق، وتقييد وصول المواطنين للنقض إلا بتوفر الإمكانيات المالية مثل ما تضمنته مواد المسطرة المدنية.
ويتضمن مشروع قانون المسطرة الجنائية الكثير من المواد التي يرفضها القانونيون وأصحاب البدلة السوداء، من بينها المادة 193، التي أغضبت هيئات المحامين لكونها تسحب أحد الحقوق الذي كان يتمتع به دفاع الأظناء والمشتبه فيهم عند عرضهم على قضاة التحقيق والمتمثل في الحصول على ملف ومحاضر القضية.
ويعتبر رجال القانون أن قانون المسطرة الجنائية المصادق عليه من قبل الحكومة، غير دستوري ومخالف لقرار سابق صادر عن المحكمة الدستورية (المجلس الدستوري) بتاريخ 13 غشت 2013 عدد 921/13، ويطرح تساؤلا جوهريا حول القيمة القانونية لقرارات المحكمة الدستورية، حيث تقول: “إن حق الدفاع ينطوي على حقوق أخرى تتفرع عنه، من ضمنها حق الاطلاع والحصول على الوثائق المدرجة في ملف الاتهام المتوفرة لدى النيابة العامة، مراعاة لمبدأ التكافؤ بين سلطتي الاتهام والدفاع”، لذلك يشدد المحامون على ضرورة تعديل المادة لتمكين دفاع الأطراف من الحصول على نفس الملف الذي تحتفظ به النيابة العامة.
من بين المواد أيضا التي تميز بين المشتبه فيهم، ولا تحقق التكافؤ في المادتين، المادة الأولى 3-66، التي تحصر التسجيل السمعي البصري للمشتبه فيه الموضوع تحت الحراسة النظرية في الجنايات والجنح المعاقب عليها بأكثر من 5 سنوات، فقد عند قراءته محضر تصريحاته ولحظة توقيعه، وليس خلال جميع مراحل التحقيق، بينما كانت النسخة السابقة من المشروع تنص على أنه “يقوم ضابط الشرطة القضائية بتسجيل سمعي بصري لاستجوابات الأشخاص المودعين تحت الحراسة النظرية المشتبه في ارتكابهم جنايات أو جنح”، أي تسجيل جميع جلسات الاستجوابات ودون حصرها في جنايات وجنح محددة، حيث ترك المشروع الجديد أمر المطالبة بمحتوى التسجيل للمحكمة، بينما كانت النسخة السابقة تنص على إمكانية عرض التسجيل إما بأمر من المحكمة تصدره، أو بناء على طلب النيابة العامة أو أحد الأطراف.
أما المادة الثانية 4-66، فتقيد حضور المحامي للوقوف مع موكله المشتبه فيه عند الاستماع إليه من قبل الشرطة القضائية إلا بترخيص من النيابة العامة فقط بالنسبة للأحداث أو ذوي العاهات، بينما يقتصر حضور المحامي مع الشخص الموضوع في الحراسة النظرية في الساعة الأولى من إيقافه، وإجراء مقابلة معه، لكن دون أن يستمر في حضور مراحل الاستماع والتحقيق.
من بين المواد الأخرى في المشروع المعروض على البرلمان التي تمس بحقوق المتابعين والأظناء، المادة 290، التي يرى فيها الحقوقيون مادة خطيرة رفضها وزير العدل الحالي عبد اللطيف وهبي، عندما كان في المعارضة، نظرا لما تحمله هذه المادة من مساس بقرينة البراءة التي هي الأصل، حيث تقول: “يعتد بالمحاضر التي يحررها ضباط المخالفات إلى أن تثبت وسائل الإثبات”، عوض البدء بعبارة “يوثق” التي كانت في السابق.
ومن المقتضيات المثيرة للجدل في هذا القانون، تمكين الطفل المولود خارج إطار الزواج في علاقة غير شرعية، من مقاضاة الشخص المتسبب في ولادته، في محاولة للضغط على الأب البيولوجي للاعتراف بالبنوة أو النسب بطريقة أخرى، رغم رفض الفقهاء نسب الابن غير الشرعي للرجل ونسبه لأمه وفق الشريعة، وجاء في القانون أنه “يحق لكل طفل ازداد نتيجة جريمة اغتصاب أو فساد أو أي اعتداء جنسي، أن ينتصب طرفا مدنيا في مواجهة المتسبب فيها، كما يعفى خلال جميع مراحل الدعوى من أداء الرسوم”.
بينما تحرم المادة 530 من المسطرة الجنائية، المواطنين من الحق في التقاضي وتكافؤ الفرص، خاصة بالنسبة للأفراد من الطبقة الفقيرة، حيث تفرض عليهم ضرورة إيداع مبلغ 5000 درهم بكتابة الضبط قبل تقديم طلب النقض، مما سيحرم فئات عريضة من اللجوء إلى محكمة النقض للطعن في الأحكام الصادرة في حقهم، مما يعتبره بعض الحقوقيين إقصاء وحرمان المواطنين من اللجوء للعدالة، على غرار ما جاء به قانون المسطرة المدنية من تعقيدات ومقتضيات تقطع مرحلة الاستئناف عن المتقاضين، بالإضافة إلى المادة 396 التي تنص على أنه “لا يمكن الطعن بالاستئناف في الأحكام الصادرة في المخالفات، غير أنه يمكن الطعن فيها بالنقض”، بينما في السابق كانت تسمح للمتهم باستئناف الأحكام الصادرة في المخالفات إذا قضت بعقوبة سالبة، أو صدر الحكم غيابيا.
ومن أبرز المواد التي أثارت ضجة كبيرة في أوساط الحقوقيين، والمدافعين عن المال العام، مقتضيات المادة 3 من مشروع قانون المسطرة الجنائية، التي تحدد الهيئات أو الجهات التي يحق لها إحالة شكاية أو طلب إجراء البحث وإقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام، حيث حرمت الجمعيات والمنظمات المدنية من تقديم شكايات ضد المنتخبين المشتبه فيهم، بعدما كانت وراء غالبية المتابعات القضائية ضدهم أمام المحاكم.
وجاء في هذه المادة المثيرة للجدل: “لا يمكن إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام إلا بطلب من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة، بناء على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات، أو بناء على طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية أو المفتشية العامة للإدارة الترابية، أو المفتشيات العامة للوزارات أو من الإدارات المعنية، أو بناء على إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أو كل هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك”، حيث يتبين أن النيابة العامة لن يكون بإمكانها تحريك الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام إلا بناء على التقارير التي تحال إليها من الهيئات الرسمية.
وفي نفس السياق، جاءت المادة 7 لتمنع لجوء الجمعيات إلى القضاء، والتي تقول: “يمكن للجمعيات المعترف لها بصفة المنفعة العامة، والحاصلة على إذن بالتقاضي من السلطة الحكومية المكلفة بالعدل حسب الضوابط التي يحددها نص تنظيمي أن تنتصب طرفا مدنيا، إذا كانت قد تأسست بصفة قانونية منذ أربع سنوات قبل ارتكاب الفعل الجرمي، وذلك في حالة إقامة الدعوى”، حيث جاءت بمقتضيات خطيرة على استقلالية المجتمع المدني عندما جعلت إمكانية انتصاب الجمعية طرفا مدنيا في دعوى تهم مجال تدخلها رهينا بالحصول على إذن بالتقاضي من وزارة العدل، هذه المقتضيات ستفتح بابا آخر للولاء والقرب والزبونية والمحسوبية للجمعيات من أجل الترخيص لها، بينما بالنسبة للجمعيات التي تعنى بقضايا محاربة العنف ضد النساب حسب قانونها الأساسي، فإنه لا يمكنها أن تنتصب طرفا إلا بعد حصولها على إذن كتابي من الضحية.
وفي هذا الإطار، عبرت جمعية “التحدي للمساواة والمواطنة”، عن رفضها تعديل قانون المسطرة الجنائية بدون الأخذ بعين الاعتبار مقاربة النوع الاجتماعي، وحماية النساء، مسجلة غياب أجهزة قضائية متخصصة في قضايا العنف ضد المرأة ضمن مواد المشروع، بالإضافة إلى عدم التنصيص على جهاز للشرطة القضائية متخصصة في قضايا العنف ضد النساء بصلاحيات واضحة، على غرار ضباط الشرطة القضائية المتخصصين في قضايا الأحداث.
وترى الجمعية أهمية إخبار الرأي العام بأن مبادرة إعادة النظر في قانون مسطري أساسي، يرتبط بشكل مباشر بالحقوق والحريات العامة والخاصة، والتي يكفلها دستور المملكة المغربية لسنة 2011، وعدد من الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب، لم تعد تسمح بأي شكل من الأشكال أن يحال مشروع قانون يحدد الآليات المسطرية الأساسية، والضمانات القانونية للمحاكمة العادلة، ومن تم سبل وآليات تحقيق العدالة بدون الأخذ بعين الاعتبار التوجه الاستراتيجي للدولة الهادف لتمكين المرأة من مختلف حقوقها.
فمن المواد المثيرة للاستغراب، المادة 1-66 التي تتعلق بتدبير الحراسة النظرية “تضع المشتبه فيه رهن إشارة العدالة والحيلولة دون فراره”، حيث تضع هذا السبب ضمن أسباب الاعتقال، الأمر الذي اعتبره الحقوقيون تقوية صلاحيات الشرطة القضائية في الحراسة النظرية، ومن بين المواد التي تطرح تساؤلات لدى الجمعيات الحقوقية التحقق من الهوية والتي تمنح لضباط الشرطة القضائية السلطة في اقتياد الشخص الذي يرفض الإدلاء بهويته إلى مقر الشرطة من أجل التحقق من هويته، حيث يمكن أن يتم استعمال هذه المادة في عدة حالات.
وقد صادقت الحكومة على الصيغة الجديدة لمشروع قانون المسطرة الجنائية المثير للجدل، والذي أغضب الكثير من الحقوقيين ورجال القانون والنشطاء، لكونه حمل الكثير من التراجعات مقارنة مع القانون السابق، الذي كان يمنح مساحة واسعة للجمعيات والمنظمات المدنية والحقوقية لتقديم الشكايات واللجوء إلى القضاء، ويعطي الحق لهيئة الدفاع للحصول على المحاضر والوثائق قصد الاطلاع عليها وحيازتها مثل النيابة العامة.
كما جاء مشروع المسطرة الجنائية، ليعزز حصانة الوزراء وكبار المسؤولين من المتابعات القضائية إذا ثبتت في حقهم تهم جنائية، حيث لم تتضمن الصيغة الجديدة لمشروع قانون المسطرة الجنائية أي تعديلات بخصوص المادة 265 من القانون نفسه المعمول به حاليا، والتي تنظم مسطرة الامتياز القضائي التي يستفيد منها الوزراء ومستشارو الملك وبعض المسؤولين الكبار.
وجاء في المادة 265، أنه “إذا كان الفعل منسوبا إلى رئيس الحكومة أو إلى مستشار لجلالة الملك أو إلى رئيس مجلس النواب أو رئيس مجلس المستشارين أو عضو من أعضاء الحكومة أو رئيس المحكمة الدستورية أو عضو بها أو عضو في المجلس الأعلى للسلطة القضائية أو رئيس أول لمحكمة ثاني درجة أو وكيل عام للملك لديها، أو قاض بمحكمة النقض أو بالمجلس الأعلى للحسابات أو بالمحكمة العسكرية، أو قاض ملحق أو رهن الإشارة بإدارة ذات اختصاص وطني، أو إلى والي أو عامل أو ضابط للشرطة القضائية له اختصاص وطني، فإن الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض عند الاقتضاء، يحيل القضية إلى الغرفة الجنائية بمحكمة النقض”، حيث أن القبض على المسؤولين ووضعهم تحت الحراسة النظرية يشترط موافقة الوكيل العام لدى محكمة النقض بناء على طلب يرفعه إليه الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف، الذي يجري البحث بدائرة اختصاصه المحلي إذا تبين له أن الإجراء ضروري لحسن سير البحث.
ومن المنتظر أن يثير مشروع قانون المسطرة الجنائية الكثير من النقاش بعد عرضه على لجنة التشريع والعدل في البرلمان، بعدما صادقت عليه الحكومة، ومن المرتقب أن تتقدم الفرق البرلمانية بتعديلات جديدة، وإجراء مقارنة بينه وبين المشروع الذي سبق أن تقدم به الوزراء السابقون، بعدما تم تمرير قانون المسطرة المدنية الذي حمل الكثير من التراجعات وقيد حقوق المواطنين في التقاضي، ومنح صلاحيات واسعة للنيابة العامة على السلطة القضائية.