تاريخ | نهاية التاريخ.. قصة طرد شعب الموريسكيين
بعد ثمانية قرون من الشموخ والألق الحضاري، تهاوى صرح الحضارة الأندلسية وتوارى معها الحضور والزعامة الإسلامية في العالم، حضارة زاهرة في ميادين شتى تعدى تأثيرها وصداها الفكري والعلمي والثقافي أقاليم العالم السبع، فشد إليها الرحال طلاب العلم من مختلف الأصقاع في سبيل الاغتراف من الزاد المعرفي والعلمي لعلماء وفلاسفة الأندلس، بل إن وعي الأوروبيين بتخلفهم الحضاري وتفوق المسلمين، حملهم على ترجمة أعمال ومصنفات لعلماء أندلسيين وتدريسها في الجامعات الأوروبية، نذكر هنا مثالا لا حصرا الفيلسوف ابن رشد، الذي ظلت كتبه تدرس في أوروبا حتى القرن السابع عشر، ومن ثم، كان للحضارة الأندلسية نصيب وافر في النهضة الأوروبية كما تقر بذلك طائفة من الأوروبيين أنفسهم.
عرف العالم الإسلامي خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر، حدثين فارقين في التاريخ الإسلامي والأوروبي، لم يكونا دائما لحساب طرف دون آخر، والبداية كانت مع فتح العثمانيين للقسطنطينية سنة 1453م، والذي جاء تتويجا لجهود المسلمين المتتالية لفتح هذه المدينة العصية والاستراتيجية منذ العهد الأموي، أما الحدث الثاني، فكان سقوط غرناطة آخر المعاقل الإسلامية في الأندلس سنة 1492م، على أن هذا السقوط لم يكن حدثا طارئا وفجائيا، وإنما يعتبر محصلة لمسلسل الضياع الذي بدأ منذ أفول نجم الأمويين وبداية ملوك الطوائف، حيث تعرضت المدن والقلاع الأندلسية للتربص والقضم تباعا، لاسيما بعد الاتحاد القشتالي-الأراغوني وزواج المصلحة بين فيرناندو وإيزابيلا، بقصد القضاء على الوجود العربي الإسلامي في الأندلس وطمس هذه المرحلة التاريخية من تاريخ إسبانيا.
لقد عاش المسلمون نهاية القرن الخامس العشر على وقع مفارقة تاريخية لا تنسى، تراوحوا فيها بين الانتصار والانتشاء بلذة الفوز والنصر والاحتفاء بفتح القسطنطينية عاصمة الإسلام، وبين صدمة الهزيمة وتجرع مرارة ونكبة الخروج من دار عزيزة على القلب والذاكرة بعد ثمانية قرون من العيش بين أحضانها، إنها الأندلس.
الواقع أن أوروبا التي خسرت جزء حيويا في شرقها (القسطنطينية)، عوضته بالأندلس في غربها، لذلك لا يمكننا هنا إسناد نصر أو هزيمة لطرف دون الآخر، حيث أن النصر والهزيمة كلاهما كانا متبادلين، بمعنى أن هناك “توازنات دولية” لا غير، وبالتالي، فإن كل الأطراف كانت رابحة وخاسرة في الوقت نفسه.
فسقوط غرناطة سنة 1492م لم ينه القضية الأندلسية، فرغم سقوط غرناطة سياسيا والاستيلاء عليها من لدن القوات الكاثوليكية، بقيت الأندلس كثقافة وحضارة ودين مستمرة في الزمان والمكان، ومن هنا ستطفو على السطح مسألة مسلمي غرناطة في ظل الحكم الجديد، والتي نركزها في التساؤلات التالية: ما هي وضعية مسلمي غرناطة/ الموريسكيين داخل إسبانيا؟ كيف كانت علاقتهم بالسلطة الإسبانية؟ كيف كانت تنظر إليهم هذه السلطة؟ هل استطاعت إسبانيا بناء مجتمع منفتح متعدد تتعايش فيه كل الأجناس (مسلمون، يهود، مسيحيون) في إطار التسامح بين الأديان والمساواة بين البشر، أم أن العنصرية والإرهاب كانا سيدا الموقف؟ وماذا عن مصير هؤلاء المسلمين/ الموريسكيين غداة سقوط غرناطة ؟
1492م.. سقوط غرناطة واكتشاف أمريكا (مفارقة التاريخ)
إذا كانت لكل تاريخ دلالاته ورمزيته في الذاكرة الجمعية للأفراد والأمم، حيث تشكل هذه التواريخ محطات ولحظات موشومة في المخيال العام للشعوب، قد تكون لحظات غاصة بمعاني النصر والاعتزاز والفخر، مما يجعل الذات وهي تسترجع مثل هذه الأحداث، في ذروة بهجتها ونشوتها وتضخمها الثقافي والحضاري، لاسيما إذا استحضرت علاقتها بالآخر المخالف في الدين والعقيدة، فإن هناك بالمقابل أحداثا تاريخية تقابل بنوع من الامتعاض والتحقير والاستبعاد، فينظر لها عادة بالسلبية، لأنها لا تحضر فيها الأنا إلا وهي مشوهة مهزومة صاغرة ذليلة مقارنة بالآخر، لذلك، نلاحظ عادة أن الذاكرات تحاول القفز وتجاهل مثل هذه الوقفات “غير المشرفة”، التي تحيي مشاعر الحزن والأسى والألم، فتركز على الوجه المشرق من تاريخها باعتباره ماض حري بالتقدير والوقوف والاحتفاء.
في هذا السياق العام، تأتي سنة 1492م، تاريخ سقوط غرناطة، فإذا كان هذا العام “فأل خير” على الأوروبيين، بما هو تاريخ سقوط آخر معاقل المسلمين/ الأندلسيين في يد القوات الإسبانية، بعد مسلسل طويل من حروب الاسترداد حسب الرواية الإسبانية، وبما هو كذلك تاريخ اكتشاف “العالم الجديد” أمريكا من لدن كريستوف كولومبوس، التي ستصبح مصدرا للثروات والغنى الذي ستعرفه فيما بعد الدول الأوروبية وظهور ما يسمى بـ”المركنتيلية”، وإذا كان الإسبان إلى وقت قريب يحتفلون بذكرى استرجاع غرناطة، واستكمال وحدتهم القومية والدينية على الأندلس سابقا، فإن الوضع مخالف تماما بالنسبة للعرب والمسلمين عموما، حيث مثل هذا التاريخ أفول زعامتهم وصورتهم الحضارية، بل إن هذا السقوط شكل تحييدا لحاجز كان إلى وقت قريب صمام أمان للمغرب ضد التوسعات الإسبانية، حيث بات هذا المغرب المجاهد في الديار الأندلسية البارحة، هو ذاته، بعد سقوط غرناطة، في مرمى الاحتلال والغزو الإسباني لسواحله.
ميلاد المسألة الموريسكية
من المعلوم أن سقوط غرناطة كان سقوطا سياسيا أنهى الحكم العربي بهذه الحاضرة، بينما بقي الوجود العربي الإسلامي كدين وكثقافة حاضرا بقوة في المجتمع الإسباني الجديد. من هنا ستطرح قضية الموريسكيين ومستقبلهم في إسبانيا كأحد المشكلات التي ينبغي للسلطات الإسبانية تسويتها، ذلك أن هذه الفئة تمثل الآخر المسلم في مواجهة الأنا المسيحية الكاثوليكية.
يشار إلى أن الموريسكي ((Moriscos، كلمة إسبانية وهي تصغير لكلمة “المور” وتعني المسلم، وهي وصف قدحي للمسلم المشكوك في مسيحيته، كما تشير إلى “المسيحيون الجدد” تمييزا لهم عن “المسيحيون القدماء”، وتحيل عموما على الأقلية المسلمة التي بقيت في الأندلس بعد سقوط غرناطة.
بالنسبة للونشريسي، يستعمل في حديثه عن الموريسكيين ألقابا من قبيل: “المسلمين الذميين” أو “المساكين الذميين”، والملفت هنا أن لفظة ” الذمي” عادة ما كانت تطلق على الآخر غير المسلم الخاضع للحكم الإسلامي، لذلك، مثلت المسألة الموريسكية “نازلة” غير مسبوقة في التاريخ والفقه الإسلاميين، الأمر الذي جعل العلماء والفقهاء المسلمين آنذاك، أمام متغير جديد، حتم عليهم الاجتهاد والإفتاء حيال مجموعة من القضايا التي واجهها الموريسكيون، من قبيل: هل ينبغي البقاء تحت حكم الكفار، أم يجب الهجرة إلى “دار الإسلام”؟ وما مدى مشروعية الجمع بين دينين ؟
من بين هذه القضايا، مسألة هجرة الموريسكيين إلى “دار الإسلام”، التي أثارت نقاشا وجدلا بين الفقهاء، إذ أفتى بعضهم بعدم جواز الهجرة، وحث على ضرورة المقاومة، تجسيدا للحديث القائل: “لا هجرة بعد الفتح”، فيما اعتبر البعض الآخر، وعلى رأسهم الونشريسي في كتابه “أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلبه على وطنه النصارى ولم يهاجر، وما يترتب على ذلك من العقوبات والزواجر”، أن الهجرة من “أرض الكفر” إلى “أرض الإسلام” فريضة.
الموريسكيون بين الإبادة أو التمسيح: القرار الصعب!
في العام 1492م، وقع عبد الله الصغير معاهدة استسلام تنازل بموجبها عن غرناطة، وتعهدت إسبانيا باحترام وتوقير المسلمين ودينهم وممتلكاتهم وهويتهم، إلا أن هذه الأخيرة نكثت وعدها، واستحوذت على أملاك الغرناطيين، وحاولت تنصيرهم قسرا، وأحرقت الكتب العربية في العلن، مما أدى إلى حدوث اصطدام أسفر عن مقتل جنود في حي البيازين ذي الأغلبية المسلمة، كما اندلعت ثورة في جبل البشرات عام 1499م، لكن الثورة فشلت نظرا لعدم تكافؤ ميزان القوى، وتنازع المسلمين وتفرق شملهم، وقد جعلت إسبانيا من هذا الحادث ذريعة لتبرير نقضها لمعاهدة الاستسلام، فأصدرت الملكة إيزابيلا عام 1502م مرسوما يقضي بالتنصر أو الرحيل، وقد زكى البابا سكستوس الرابع هذا المرسوم الملكي بمرسوم آخر، بعثه إلى أساقفة أراغون وقشتالة، يحثهم على الإسراع في التعميد القسري للموريسكيين، وتخييرهم بين التعميد أو مصادرة أملاكهم أو الهجرة، وفي هذا الصدد، يشير الأستاذ عبد الواحد أكمير، إلى أن جل الموريسكيين فضلوا التعميد على التخلي عن أملاكهم.
رهان الإدماج القسري للموريسكين وتذويبهم في الثقافة الإسبانية، حمل إسبانيا على إنشاء محاكم التفتيش، وإحداث فروع لها في جميع الأقاليم لملاحقة المسلمين.. فقد وجه فرناندو لشارل الخامس وصية يحثه فيها على ضرورة اختيار محققين أكفاء ومخلصين للدين الكاثوليكي، لتضييق الخناق على طائفة محمد، كما جند مخبرين وجواسيس لذات الغرض.
تعرض الموريسكيون لحملات تنصير وإرهاب واسعة، فقد فرض عليهم ترك أبواب بيوتهم مفتوحة ليل نهار لمراقبتهم والتأكد من مصداقية معتقدهم واندماجهم في الدين والثقافة الجديدين. هذا الوضع سيفرز مفهوم “التقية”، أي ازدواج الهوية، ذلك أن الموريسكي كان مضطرا أن يعيش حياة وهوية مزدوجتين: أولا من أجل الحفاظ على دينه (الإسلام)، ثم لتأمين حياته والحفاظ على أملاكه وإبعاد الشكوك عنه، فهو مسلم في الباطن ومسيحي في الظاهر.
وفي العام 1566م، أصدرت إسبانيا قانونا يحرم اللغة العربية ويمنع استعمالها في العقود والالتزامات والرسائل، حيث شكلت مدخلا لتخليص المسلمين من معتقداتهم وإدماجهم في الحياة الجديدة، علاوة على حظر الزي العربي، ومنع النساء من ارتداء الحجاب واللباس الإسلامي، ولم يكن الأطفال بمنأى عن موجة التنصير الممنهجة هذه، نظرا لهشاشة هذه الفئة وسهولة إدماجها وقولبتها في المنظومة الإسبانية، إذ أنشأت إسبانيا مدارس لتعليم اللغة الإسبانية للأطفال المتراوحة أعمارهم بين 5 و15 عاما، وفرضت على الموريسكيين الزواج بالكنيسة وتعميد أطفالهم، وللحيلولة دون التمكين لهذه المقاصد، حاول الموريسكيون تأخير إبلاغ أبنائهم بأنهم مسلمون، وكذا تأخير تلقينهم شعائر الإسلام إلى ما بعد الطفولة، والسبب أن الموريسكيين كانوا يتحاشون افتضاح أمرهم بسبب عفوية الأطفال، في المقابل، حرصوا على إظهار انصهارهم الشامل في الثقافة المسيحية أثناء تبادل الزيارات مع جيرانهم المسيحيين، كتجنب بعض الأطعمة (الكسكس مثلا)، والإقبال على أخرى (لحم الخنزير والخمر)، وعادات الأكل (عدم الجلوس على الأرض)، وغيرها من المظاهر الأنثروبولوجية المميزة للإنسان الموريسكي.
هكذا إذن، عاش الموريسكيون أزمة هوية حادة، إذ انشطروا إلى حياتين وعقيدتين وسلوكين ولغتين وثقافتين متوازيتين.
طرد جماعي ونهاية ملحمة خالدة
كان الموريسكيون قبل تهجيرهم، قد أطلقوا صرخات الاستغاثة بالعالم الإسلامي لنجدتهم ورفع الضير والحصار عنهم، حيث راسلوا الأتراك، كما استغاثوا بالسلاطين المغاربة، بيد أن صرخاتهم تلك لم تؤد إلى ردود فعل ملموسة فضاعت في مهب الريح، بل إن الأنكى من ذلك، أن السلطان السعدي الغالب بالله، نكث وعده للموريسكيين وتواطأ مع العدو الكاثوليكي ضدهم، وهذا ما عبر عنه المؤرخ المجهول قائلا: “فلما قام الموريسكيون، تراخى عما وعدهم به، وكذب عليهم غشا لهم ولدين الله تعالى ومصلحة لملكه الزائل، وكانت بينه وبين النصارى مكاتبات” (كتاب: تاريخ الدول السعدية التكمدارتية)، وإذا كان عبد الله الغالب على هذه الشاكلة، فإن السلطان محمد الشيخ المأمون، قد تجرأ على الإيقاع والوشاية بهم لدى الملك الإسباني فيليب الثاني.
يظهر مما سبق، أن إسبانيا لعبت جميع أوراقها في محاولة لإدماج وصهر الموريسكي في المنظومة المسيحية الكاثوليكية الإسبانية، لكن محاولتها باءت بالفشل رغم تعدد مداخلها ووسائلها، لذلك، ستلجأ إسبانيا إلى لعب ورقتها الأخيرة ألا وهي الطرد القسري والجماعي للموريسكيين.
ويفسر المتخصصون في التاريخ الأندلسي، أن لجوء إسبانيا إلى هذا القرار مرده إلى تشبث الموريسكي بثقافته وتفرده الحضاري، واستحالة قولبته وإعادة إنتاجه ضمن مخرجات المنظومة الكاثوليكية، وهو ما جعل إسبانيا تقف عاجزة أمام صمود وتصلب وعناد الموريسكيين.
وقد تعرض الموريسكيون لمختلف صنوف التضييق والاضطهاد والمعاناة، تعرضوا للبيع والاختطاف من لدن القراصنة، كما فرض عليهم التجرد من ممتلكاتهم، ناهيك عن عدم اصطحاب أطفالهم الأقل من 14 عاما، فكان الطرد نكبة شديدة الوطأة على نفسية الموريسكي، لأنها هجرة اللاعودة، وتعني فيما تعنيه، التخلي وفراق بلاد وأرض حافلة بالذكريات والعادات والمشاعر… إلخ، لهذا يمكن القول أن الموريسكي تشظى إلى نصفين، عندما ترك نصف حياته وذكرياته بالأندلس، فصار بمثابة فاقد للذاكرة، حيث يحيا حياة جافة خالية من الحميمية والدفء والإحساس، لأن قطعة من حياته وذاكرته مبتورة، وبعد استقراره في البلدان المضيفة (شمال إفريقيا والإمبراطورية العثمانية…)، لم يهنأ له بال ولا قرار، فقد ظل قلبه متعلقا بأرض أجداده، وعاش على أمل وحلم العودة إلى الفردوس المفقود.