كواليس الأخبار

مهمة في تل أبيب

بقلم: عبد الرفيع حمضي

    عاجز كالعالم كله بمنظماته الأممية ودوله ذات السيادة، المتقدمة منها والسائرة في طريق النمو، العربية والإسلامية والإفرنجية.. كنت أتابع عبر القنوات الفضائية ما تتعرض له الأراضي الفلسطينية من عدوان إسرائيلي، والجميع يستعد لإقفال مائة يوم الثانية على حرب الإبادة، التي انطلقت في السابع أكتوبر من السنة الماضية، عندما تزاحمت في ذهني أربعة أفكار متبعثرة:

الأولى: تكاد كلمة فلسطين تغيب مطلقا في الإعلام الغربي الأوروبي والأمريكي معا، مع أن رواده يتحدثون عما يقع بغزة من زاويتهم، في حين أن كل المعلقين يتحدثون عن غزة والنزاع في الشرق الأوسط، وهي محاولة – في تقديري – تهدف إلى الترسيخ في أذهان العالم أن الأمر لا يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي بدأ باغتصاب الصهاينة لأرض فلسطين منذ وعد بلفور وما تلاه سنة 1948، وإنما ما يقع الآن فيحصل على جزء من فلسطين ومع مجموعة من الشعب الفلسطيني وبمنطقة لا غير وليس بكل فلسطين، ولست بحاجة لا للتذكير ولا لسرد ما تقوم به القوات الإسرائيلية الآن خارج قطاع غزة.

فإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للإعلام الغربي، فمع الأسف حتى الإعلام الرافض لهذا العدوان في العالم العربي والإسلامي وغيره، يحكي نفس اللغة ويقدم نفس المقاربة ولا يتحدثون عن فلسطين بكاملها، بل حتى المناضلين المساندين للقضية الفلسطينية تاريخيا وهم يجوبون الشوارع في العالم أو في الفضاء الأزرق، يكررون ما رسخه الإعلام الغربي، وبالتالي فالحذر يقتضي أن الأمر لا يخص كلمة معزولة، غزة عوض فلسطين، وإنما بموقف مبدئي يتعلق بالوجود وليس الحدود.

تتمة المقال تحت الإعلان

 الثانية: رعونة إسرائيل الحالية واستهتارها بالمجتمع الدولي ومنظماته ومحكمته، تستمده أساسا من مساندها الرئيسي: الولايات المتحدة الأمريكية، ذات الموقع الريادي في العالم، ومن تجريبها لعدم فعالية الآليات الأممية والدولية، وأيضا من يقينها أن كل الأشكال التضامنية المعبر عنها عالميا مع الشعب الفلسطيني مهمة لكن أفقها محدود.

وهذا الأمر ليس جديدا في السلوك الإسرائيلي، ففي ماي 1980 على سبيل المثال، قامت إسرائيل باعتداءات عنيفة على الفلسطينيين بالضفة الغربية، بل مس الاعتداء عمدة كل من نابلس ورام الله وقاضي جبل الخليل، وبما أن مصر كانت حينها حديثة التوقيع على “اتفاقيات كامب ديفيد”، قام وزير الخارجية بطرس غالي، بالاحتجاج لدى إسرائيل على هذه الممارسات والتصرفات القمعية لحكومة “الليكود” مستعملا خبرته السياسية والقانونية، ليؤكد كتابة عدم مشروعية ما قامت به إسرائيل، إلا أن وزير الخارجية إسحاق شامير، لم يتأخر في الرد على زميله، مبررا أن ما قامت به إسرائيل قد استلزمه “العقل الوحشي” الذي أسفر عن موت ستة وجرح 17 مواطنا إسرائيليا، مع الإشارة إلى أن “العقل الوحشي” كان حينها هو منظمة التحرير الفلسطينية، واليوم هو فصيل آخر.

وأضاف شامير أن الاتفاقية الرابعة من اتفاقيات جنيف، المتعلقة بالترحيل الفردي والجماعي، لا تنطبق على الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن تعليمات الطوارئ التي كان العمل بها جاريا أيام الانتداب البريطاني، تبيح تدمير الممتلكات إذا كان ضروريا للعمليات العسكرية.

تتمة المقال تحت الإعلان

هذا ما حكاه أول سفير مصري في تل أبيب في مذكراته الصادرة سنة 2008،

فماذا تغير بعد ربع قرن في تبرير سلوك إسرائيل؟

الثالثة: بعد “أيلول الأسود” وهزيمة 1967، قام الجنرال إسحاق رابين منتشيا بنصره، بدعوة صديقه الجنرال الفرنسي إريك بوف، لجولة بالطائرة ليستعرض أمامه الأراضي التي اغتصبها الجيش الإسرائيلي، وهما بالسماء قال الجنرال الفرنسي: “هذه مساحات شاسعة”، فصمت رابين برهة ورد بصوت مكسور: “وماذا سيبقى من كل هذا مون جنرال؟”.

تتمة المقال تحت الإعلان

هذه القصة حكاها الجنرال الفرنسي نفسه بمعهد الدراسات السياسية بالقاهرة في بداية السبعينات، أما في سنة 2003، فقد نشر رئيس الكنيست الإسرائيلي أبرهام بورغ، مقالا في “الغارديان” البريطانية قال فيه: “إن الدولة التي تفتقد للعدالة لا يمكنها البقاء، وحتى لو طأطأ العرب رؤوسهم وابتلعوا عارهم وغضبهم إلى الأبد، فلن يساعدنا هذا، فالبنية القائمة على القسوة سوف تنهار حتما على نفسها”.

أما مؤسس حركة “حماس”، الشيخ ياسين، عندما صرح في برنامج “شاهد على العصر” سنة 1998 بأن نهاية إسرائيل ستكون في سنة 2027، مؤسسا رأيه على تحليل ديني صرف، فلم يهتم بهذا الكلام إلا أتباعه ومريدوه، وجمهور من الإسرائيليين، لأن فكرة نهاية إسرائيل متجذرة في الوجدان الإسرائيلي، حسب المفكر وعالم الاجتماع عبد الوهاب المسيري.

فهل هذا الخوف المرضي هو ما يبرر ما تقوم به إسرائيل من إبادة في حق الشعب الفلسطيني اليوم خوفا من سنة 2027 وهي على الأبواب؟ أليست إسرائيل نفسها شيدت كل حكايتها على هيكل سليمان في حين يجمع علماء الآثار أنه غير موجود هناك؟

تتمة المقال تحت الإعلان

رابعا: ما قامت به إسرائيل منذ نشأتها من إبادة ولا زالت، هل سيترك مساحة في المستقبل للعيش المشترك بين الطرفين حتى وإن اقتضت دواليب المصالح والعلاقات الجيواستراتيجية على المستوى الدولي واقعا آخر بالمنطقة؟

فإذا كانت إسرائيل لم تغفر للعالم ما وقع لليهود بعد الحرب العالمية الثانية، رغم اعتراف الغرب بذنبه وقدم الدليل على ذلك، بل قبل السردية الواحدة التي فرضها الصهاينة على العالم، وكل من شكك فيها يقدم إلى العدالة، كما أن الصهاينة حسب الأستاذ مليم العروسي “لا زالوا يعتبرون أن العالم كله مذنب وأن ذات الذنب سيلاحق الأجيال القادمة، كما حكم الرب على سلالة يام ابن نوح بالبقاء إلى الأبد عبيدا عند أبناء سام، حسب التوراة”، لكن في المقابل، هل سيغفر العالم لإسرائيل على ما فعلته بالفلسطينيين مسلمين ومسيحيين؟

وفي الأخير، يحكي الدبلوماسي سعد مرضي، عندما عين كأول سفير في إسرائيل في مذكراته “مهمتي في تل أبيب”، أنه رغم حفاوة الاستقبال الرسمي والاجتماعي الذي أحيط به منذ وصوله وتقديم أوراق اعتماده، إلا أن الحاجز النفسي الذي حاول الرئيس السادات تخطيه بزيارته للقدس، لازال قائما حتى والسفير يغادر إسرائيل بعد نهاية مهمته، وهو ما كان يلمسه في عيون الإسرائيليين أنفسهم، وفي حركات المصريين بمن فيهم أعضاء البعثة المصرية التي يسير شؤونها بتل أبيب.

تتمة المقال تحت الإعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى