

أنطوان تشيخوف هو ذلكم الاسم الذي قرأنا رواياته صغارا وحاولنا فهمها كبارا، ومنا من فهمها ومنا من لا يزال يبحث عن ألغازها، وهو الذي اشتهر بكونه كاتبا مسرحيا، وأستاذا في فن القصة القصيرة الذي استند على الإنسانية الواقعية.
فهذا الطبيب والكاتب المسرحي والروائي والمؤلف القصصي المزداد سنة 1860 والمتوفى سنة 1904، يعتبر من خبراء علم النفس الإنسانية، حيث استطاع بموهبته وعبقريته أن يتسلل إلى العوالم الداخلية للإنسان ويحكي عليها برموز يدركها القارئ المتأني فيخرج منها بدروس في أعقد علم عرفته البشرية وهو علم دراسة النفس البشرية بكل خوالجها وعقدها وتجاربها وطيبوبتها وشرورها وحسدها وغيرتها، وكدحها وراء المادة تارة، والترفع عنها تارة أخرى، ونفاقها وخيانتها وإخلاصها، وكذلك بعفويتها وحبها، وإجمالا بكل تناقضاتها، لذلك أصبح من عباقرة كتاب القصص القصيرة على مدى التاريخ، ومن كبار الأدباء الروس.
كتب تشيخوف المئات من القصص القصيرة، ومسرحياته كان لها تأثير عظيم على دراما القرن العشرين، حيث مثلت مسرحيات وأفلام متعددة، هذا القرن الذي استطاع في بدايته أن يخلق تلك الثورة الصناعية التي بدلت البشر ونتج عن تداعياتها ما نعيشه اليوم من سلبياتها وإيجابياتها في نفس الوقت، وكل ذلك تنبأ به هذا الكاتب وكأنه عاشه في مؤلفاته التي لا زالت محل اهتمام وترجمة في العالم بأسره.
وقد اجتمعت في تشيخوف خاصيتان قلما تجتمع في كاتب، هو أنه عالم أو حكيم طب، وأديب في نفس الوقت، فكان يقول: “إن الطب هو زوجتي والأدب عشيقتي”، وبذلك تميزت كتاباته – كما تميزت كتابات إبراهيم ناجي وغيره من الأطباء الأدباء الذين سبق الحديث عنهم – بالواقعية الإنسانية التي طبعت أعماله.. فحتى مفهوم السعادة استطاع تغييره في قصصه وكأنه يعتبر أبواب السعادة والرضى مختلفة بذلك التخوف من الحياة نفسها بجوانبها المظلمة عاجلا أو آجلا وكأنه تشاؤم منطقي، في حين أنه واقع الحياة الإنسانية التي تتأثر بالمحن، والمرض، والفقر، والخسارة، والربح، وبعد ذلك لن يراك أحد أو يسمعك، تماما كما أنك الآن لا ترى أو تسمع الآخرين، حسب نظرياته..
وأوعز النقاد نظريات أنطوان تشيخوف إلى عيشه في مجتمع روسي يتسم بالفقر والقمع والتحكم والتشتت العائلي، والطبقية الاجتماعية المقيتة والعبودية، التي عانى منها في صغره بسبب إفلاس والده وهروبه وما تكبده من معاناة من أجل إطعام عائلته.. فقد اتسمت أعماله بالصدق الذي يُبنى على الإنسان كما هو، وليس كما ينبغي.
وتكمن عبقرية تشيخوف في أنه تمكن من وصف الناس بعقلانية وصورهم على حالهم الواقعي دون زخرفة أو غطاء يحجب عن القارئ لب المعاناة الإنسانية، فهذا الطفل الصغير المزداد في 29 يناير 1860 في ميناء على بحر آزوفكان، هو الثالث من بين ستة أطفال، كان والده بافل يغوروفيتش تشيخوف، ابن عبد سابق، حيث كانت العبودية لا زالت تنخر المجتمع الروسي، وزوجته الأوكرانية من قرية أولهوفاتكا.
تُرى كيف كان تشيخوف سوف يكتب عن هذه القرية التي ربما تشهد قصفا متبادلا بين الروس أنفسهم في هذه الحرب الأوكرانية اليوم؟
وهل الأفضل ذلك الهدوء الذي كانت تنعم به رغم المعاناة الإنسانية، أم هذا الوضع الكارثي اليوم؟
وكيف كان يصور لنا محافظة فورونيج التي كان يدير فيها والده محل بقالة آمن يستدر منه الربح ليبني منزلا ويقع له ما يقع من مآسي بسبب ذلك؟
وبغض النظر عن أي تصور، فقد اختزل تشيخوف طفولته وتأثره بوسطه العائلي في جملة بسيطة، لما قال: “لقد حصلنا على مواهبنا من والدنا، ولكن روحنا من والدتنا”.