

لازلت أذكر يوما ما، وفي حصة الأدب العربي بالثانوية، ونحن صغار السن والأستاذ يسألنا عن موضوعات في غير مقرر السنة الدراسية: من فيكم يعرف تشيخوف؟ فتعددت الإجابات وأكثر إجابات التلاميذ الصغار كانت تقول بأنه لاعب كرة القدم روسي، ومنهم من قال إنه عالم ولربما اقتربوا من الإجابة، ومنهم من قال بأنه مؤرخ، لكن مجموعة من التلاميذ ومنهم عبد ربه، لزمنا الصمت ولم نرد المغامرة بإجابة لا نعرفها، وأمام ضحك الجميع سأل أحد التلاميذ الأستاذ فيما إذا كان هو أستاذ الرياضيات الروسي الذي كان يدرس لنا هذه المادة واسمه ليبوفيتش، وكان من جملة الأساتذة المتعاقدين في سبعينات القرن الماضي مع وزارة التعليم، وبعد انتهاء الحصة أخبرنا أستاذ اللغة العربية بأنه مطلوب منا البحث حول هذا الاسم .
وترك لنا أسبوعا كاملا كأجل، وقد كانت من الطرق البيداغوجية السليمة التي يلجأ إليها الأساتذة لتنمية ملكة البحث العلمي ومداركه عند التلميذ أو الطالب، في زمن لم تكن فيه الهواتف النقالة ولا محرك “غوغل”، الذي تنقر عليه ويعطيك كل ما تريد وأكثر من المعلومات قبل أن يرتد إليك طرفك.
ولما أدركنا بأن السؤال يتعلق بروسي أو بلغاري فهم من يسمون بهذه الأسماء، وفي حصة الرياضيات سألنا أستاذنا ليبوفيتش الروسي، فبدأ يبتسم وقال: من سألكم عنه؟ قلنا له أستاذ مادة العربية، فزاد إعجابه بزميله وقال لنا بكل اختصار: أنصحكم بقراءة قصصه القصيرة ورواياته، لكن سوف لن تفهموها إلا بعد أن تصبحوا كبارا، فزاد تعطشنا لمعرفة هذا الكاتب وذهب البعض منا إلى مكتبة البلدية التي كانت وحيدة وقريبة منا في محج الجيش الملكي، وكان مديرا لها الأستاذ بلهاشمي، وهو من المثقفين في عهد الاستقلال الذين أسندت لهم مهام إدارتها.
وذهب من يملك بعض الدريهمات إلى ساحة الأحباس ليسأل عن المؤلفات، أما البعض الآخر، فقد قصد البحيرة عند الكتبي المشهور “بّا بوعزة” بائع الكتب القديمة وصاحب الشنب الكثيف، “أنسيكلوبيديا” الثقافة في مراهقتنا رحمه الله كما كنا نسميه، والذي يغادر الدكان ويترك الطلبة في جنباته يقرؤون ويسجلون ما يحلو لهم من المعلومات في مسوداتهم، مساهمة منه في الوعي الثقافي دون أن يجبرهم على اقتنائها، مما جعل دكانه في البحيرة “مكتبة فابور” كما كان يحلو له أن يخاطبنا بعدما نطيل البحث والقراءة دون شراء المرجع، بل كان لا يحتمل شيئا واحدا هو عدم العناية القصوى في تصفح الأوراق التي يكون بعضها قد أذبله لمس الأيادي كما أذبلت زهرة خيال الشاعر صالح جودت، التي رعاها بفؤاده ومات سحر جفونها في الأغنية المشهورة .
وكنا نتعجب كيف بمجرد ما تسأله عن مؤلف حتى تمتد يده إلى مكان معلوم ويعطيك الكتاب دون أن يقرأ عنوانه، سواء بالعربية أو الفرنسية ودون خطأ، وهي ملكة يكتسبها الكتبي بكثرة المراس والعناية بالعناوين وترتيبها ترتيبا لا يعرف مفاتيحه إلا دماغه.
وما إن انصرم الأسبوع حتى كان مجموعة من التلاميذ ينسخون كل ما تمكنوا منه من مصادر حول هذا الكاتب الروسي المشهور، واكتفى أستاذ اللغة العربية فقط بالبحث وبتفسير مقتضب عن أعماله.
يتبع