كواليس الأخبار

تحت الأضواء | زلزال الحجارة.. وزلزال القلوب

8 شتنبر 2023.. ليلة ليست للنسيان

بقلم: سعيد الريحاني

    كان بالإمكان ألا نكتب.. وكان بإمكانكم عدم القراءة.. لأنه لا تواصل بين الأموات إلا مع خالقهم(..)، ولكن الأقدار كتبت لكم ولنا عمرا جديدا لنكتب وتقرؤون وتتفاعلون(..)، وسط الزلزال، وحشود الهاربين المتزاحمين، هناك من تذكر قوله تعالى: ((وإذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها..)).

وكانت ظاهرة “الفرار” قد انتشرت في كافة أرجاء البلاد ليلة الجمعة الماضية، حيث فضل جل المغاربة قضاء ليلتهم خارج المنازل، قبل أن يعلموا أن الزلزال، الذي أرغمهم على الفرار رغم قوته، هو نفسه الزلزال الذي دمر قرى بأكملها في منطقة الحوز..

تتمة المقال تحت الإعلان

الناس كانوا يخافون الوباء، وقضوا عدة شهور رهن التدابير الاحترازية بين ارتداء الكمامة والحجر الصحي، واستعمال أدوات التعقيم، لكن الموعد مع الموت لم يحضره الوباء أصلا.. غابت “كورونا” بإحصائياتها اللعينة، وحضر الموت بكامل أدواته دون استئذان، ((إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلْأَرْحَامِ، وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِى نَفْسٌۢ بِأَىِّ أَرْضٍۢ تَمُوتُ، إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌۢ)).

في الحوز.. كانت الأرواح ترحل إلى جوار ربها، ومئات الجروح تنزف، ومئات الأجساد تقاوم تحت الركام، والأنفاس تختنق.. كان الزلزال بصدد تكسير الحجارة، ولكنه كسر القلوب في باقي مناطق المغرب، بعد أن عرف “الهاربون” في مختلف المدن، أن الناس لم تتمكن من الهرب في الحوز، وأن هناك مئات الضحايا..

وسط شح المعلومة(..)، حيث كانت أمواج الراديو منشغلة بالموسيقى كالعادة، مثلها مثل الجالسين في الأماكن الصاخبة(..)، بدأ الحزن يتسلل شيئا فشيئا إلى القلوب، مصحوبا بهلع كبير، بعد أن عمدت مواقع التواصل الاجتماعي إلى نشر إشاعة “تكرار الهزة الأرضية” في الليل وبشكل أعنف، ولكن لطف الله حال دون ذلك، ليطرح السؤال عن هذا “العجز الإعلامي” في تدبير الأزمات.. تصوروا شبكة الاتصالات معطلة، والمفزوعون يسألون عن أهلهم وذويهم، ولا جواب ولا تأكيد، ولا مسؤول.. الكل في عناية الله.

تتمة المقال تحت الإعلان

ليلة الجمعة، كان هنالك عرس، وكانت هنالك جنازة، ولكن الناس هربوا من العرس والجنازة، بل إن العروس بقيت لوحدها، كما بقي الأموات وحدهم إلا من رحمة الله، هرب المغني وهرب المهنئون، وهرب المشيعون (إلا في بعض الحالات)، والأجر عند الله..

أين الأم؟ أين الأب؟ أين الأخ؟ وأين الأخت؟.. وسط الركام كان المكلومون في الحوز يبحثون عن فلذات أكبادهم وسط الدمار وكأنه القصف، ورغم غياب القصف، فقد كانت النتيجة شبيهة بالحرب، بعد أن فقدت الأم أبناءها وزوجها وبقيت وحيدة وسط الخراب، وكأنها لقطة من فيلم لم يكتب بعد لـ”الناجية الوحيدة”..

في ظلام دامس، كانت نداأت الاستغاثة المرفوقة بالصراخ والألم كفيلة ببعثرة دقات القلوب، وكأنه كابوس بعد أن انتقل الناس من نوم عميق إلى قلب المأساة والألم.. من بإمكانه استيعاب ذلك؟ أقصى ما كان يتصوره المرء هو كابوس مزعج، ولكن الواقع صار أبشع، والكابوس أرحم، لأنه ينتهي في جميع الحالات بفزعة لا قيمة لها بعد الاستيقاظ، ولكن الواقع لا يمكن الاستيقاظ منه.. ولا مجال للحديث عن جبر الضرر والخواطر.. هي فقط جروح ستبقى ندوبها خالدة في الأجسام والعقول، وفي نفوس مكلومة.. “لا راد لقضاء الله”.

تتمة المقال تحت الإعلان

في الحوز، كانت المأساة، لكن الناس في شوارع عدة مدن قضوا ليلتهم في التقاط الأخبار المفزعة المقترنة بالخوف، وفجأة تم إلغاء كافة الأعراف والتقاليد، فقد خرجت النساء والرجال بملابس المنازل، وهناك من خرج على حقيقة الخلق الأولى (في بعض الحالات)، فالحي أبقى من الميت، وطبعا لا يمكن لـ”الميت” أن يهتم بلباسه أو أناقته، أو بـ”البروتوكول” إلا إذا ضمن حياته أولا، فالملابس شأنها شأن آراء الناس لا تنفع أمام الموت..

هناك من لم يشعر بالزلزال، وفي كل مرة كانت الأرض تهتز تحت قدميه، كان يبحث عن مبررات لتفسير سبب هذا الحراك الغير معتاد للمصابيح والأبواب والنوافذ والطاولات والأواني.. ولكن هؤلاء أدركوا في النهاية أنه الزلزال، فانتابهم الهلع بأثر رجعي، شأنه شأن الحزن الذي ملأ القلوب مع انتشار أولى صور ضحايا الزلزال العنيف..

عند بداية الزلزال يوم الجمعة، لم تكن هنالك حكومة، ولم تكن هناك جماعة، ولا مقاطعة، ولا مخبرين.. ليظهر أن الحاكم فعلا هو الله، لمن يؤمنون بوجوده، وكانت الدروس بليغة بعد تلك الليلة، وهو ما تفسره قوافل التضامن التي هرعت إلى إقليم الحوز، وهي القوافل التي لازالت مستمرة إلى اليوم، لتؤكد أن المغاربة شعب استثنائي(..).

تتمة المقال تحت الإعلان

حتى كتابة هذه السطور، لازال الأمل معقودا على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وأن يكون تدخل الدولة والمتضامنين حكيما، وكل الأمل ألا يضرب الزلزال من جديد، فهول الفاجعة أكبر من المتوقع، والوطن لا يتحمل فاجعة أكثر، ولا زلزالا أكبر..

ومن المضحكات المبكيات في زلزال لا يرحم، هروب الناس من الحمام بملابس الاستحمام، خاصة أولئك الذين كانوا يستحمون في الصالات المغلقة، وهم الذين ظهروا بـ”فوطاتهم” في الشارع العام، ومن المضحكات المبكيات، ذلك الفرق بين المغني الذي استمر في أداء وصلته الغنائية، وبين صاحب الكمان الذي أطلق ساقيه للريح تاركا العرس بما حمل..

في ليلة الجمعة، كان باب الموت مفتوحا، وكان باب الحياة أكبر، ولكن النجاة من الزلزال لا تعني سوى فتح باب للتفكر من جديد وإعادة ترتيب ما يمكن ترتيبه، من طرف المسؤولين والمواطنين، بكل جدية(..)، والمتضررون في حاجة إلى إسعافات سريعة، وأغطية ومأكل وملبس وتطبيب، وتكريم للأموات.. أما المعركة المقبلة، فهي معركة بناء إنسان جديد وبناء مدن جديدة بمسالك جديدة، مع مراعاة الجانب الاجتماعي للضحايا الذين تغيرت وضعيتهم العائلية، بين اليتيم والأرملة، والذين لا حول لهم ولا قوة.. وفي انتظار ذلك، يبقى التضامن واجبا وطنيا لا غنى عنه، بعد تلك الليلة التي لن ينساها أحد.

تتمة المقال تحت الإعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى