الرأي | مؤامرة الجهل
بقلم: محمد يتيم
شاهدت هذا الصباح شريطا مصورا لسيدة وسط تظاهرة احتجاجية تتحدث عن مؤامرة التلقيح لتحويلنا إلى روبوتات متحكم فيها، وتقول السيدة التي تحدثت بوثوقية كبرى: “إن مكونات اللقاح ستتجمع مع المدة لتصبح شريحة ستكون هي الأداة التي ستمكن أصحاب القرار العالمي من ذلك التحكم!”.
السيدة المذكورة لم تتوقف عند ذلك، بل تنصح بالحجامة للتخلص من أثار اللقاح وعدم السماح بتكون الشريحة المذكورة!
بالمناسبة، فإن فكرة المؤامرة في تفسير انتشار فيروس “كورونا”، هي فكرة يروج لها البعض ليس في المغرب فحسب من مناهضي العولمة وممن يتبنون نظرية المؤامرة.. وإنما شكك بعضهم في اللقاح من منطلقات قد تبدو في الظاهر معقولة، خاصة تلك المتعلقة بالشروط التجريبية الإكلينيكية الخاصة باعتماد لقاح معين، وبعضهم يروج للمضاعفات الجانبية للقاح!
لا أدري كيف يمكن أن نصدق أن دولة بأطبائها المتخصصين وخبرائها وأبنائها المشتغلين في أكبر المختبرات العالمية، يمكن أن “يغفلوا” كل هذا “العييلم” الذي أصبح يتداول في الشارع وعلى أساسه يناضل البعض ضد هذه “المؤامرة العالمية”، إلا أن يكونوا متواطئين، وقد استمعت لبعض هؤلاء وهم من أبناء الوطن المخلصين يحاضرون في “كورونا” ويبينون من خلال منهجية علمية وإحصائية تمكن من التنبؤ بتطور الوباء، ويدعون إلى اعتماد التدابير الاحترازية مع اللقاح ..
ولا أعرف كيف ينبغي أن أكذب هؤلاء وأشكك فيهم وأثق في أصحاب نظرية شريحة التحكم !!
مع الإشارة إلى أن المملكة انتهزت جائحة “كورونا” كي تتموقع في صناعة إنتاج اللقاحات، مما يبين أن بلادنا تتوفر على كفاءات متخصصة ذات تكوين عالي في هذا المجال، وأن كثيرا من كفاءاتنا تشتغل في مختبرات وشركات عالمية ذات صلة بالأبحاث ذات الصلة بعلوم المناعة وتطوير اللقاحات.
ما خبرناه وعشناه، أن آلاف المواطنين ممن نعرفهم ومنهم أقارب قد أصيبوا بالفيروس، ومنهم صاحب هذه التدوينة، وعانوا من أعراضها، بل إن بعضهم غادر إلى دار البقاء، وفي كل حي وفي كل أسرة وفي كل إدارة أو تنظيم سياسي ونقابي، ذهبت “كورونا” بعدد من الأرواح وعلى رأسهم عدد من الأطباء.
ما خبرناه وخبره الجميع، هو أنه مع اتساع نطاق التلقيح، فقد تجاوزنا مرحلة حرجة عرفها شهر يوليوز وغشت الماضي، وأوشكنا على أن نحقق مناعة جماعية ضد “كوفيد 19” ونسأل الله تعالى أن يقي بلادنا والبشرية من ظهور نسخ متحورة أشد فتكا.
قد نتفهم من خرج محتجا ضد فرض إجبارية جواز التلقيح وترتيب عقوبات وغرامات على عدم التوفر عليه، من منطلق حقوقي وبناء على حجاج قانوني، من قبيل غياب الصفة الضبطية فيمن سيطبق القرار الحكومي المتعلق بإجباريته من أجل الدخول لأي مرفق عمومي أو فيما يتعلق بالحركة والجولان.. فلهذا الاحتجاج ما يسنده ويبرره بمنطق الحرص على إعلاء منطق القانون على الرغم من أن الحرية الفردية لا تتعارض في الأدبيات العالمية لحقوق الإنسان مع حق الجماعة، وأن الحريات الفردية لا يمكن أن تكون على حساب حق الجماعة أو على حساب النظام العام.
من حق أي مواطن أن يرفض تلقي التلقيح، ولكن من حق الجماعة أو المجتمع والقانون الذي يحمي النظام العام، أن يحافظ على أمنه الصحي الجماعي ويمنعك من نشر الفيروس القاتل بدعوى الحرية الفردية، فحقوقك هي واجبات للآخرين، وحقوق الجماعة أو الآخرين هي واجبات للفرد، لكن أن تتحول الخرافة والجهل إلى أدوات تعتمد في الترويج لنظريات في المؤامرة على البشرية.. نظريات مفادها الرغبة في التحكم في البشر من خلال زرع شريحة “بيل غيتس”، بحيث نتحول إلى ربوتات متحكم فيها عن بعد، وخاصة حين يتم ترويجه من أناس ممن ليست لهم معرفة أو تخصص في الطب والبيولوجيا وعلوم الأمراض المعدية والمناعة، وهلم جرا…
إن هذا يؤكد أن أخطر ما سيحولنا إلى ربوتات متحكم فيها، هو الجهل، والجهل المركب لقضايا، ينبغي أن يتكلم فيها العلماء المتخصصون.
وأخطر ما سيحولنا إلى روبوتات، هو غياب العقل والتلقي النقدي الإدراكي لما ينتشر في شبكات بيل غيتس، حيث أنه إذا كان هناك من مؤامرة لبيل غيتس، فهو أنه وضع بين يدي العادي والبادي شبكاته التواصلية التي تسمح للجهلة والمعتوهين أن ينشروا ما يخطر على بالهم، وأن يطلقوا نار الشكوك والاتهامات والتخوين والترويج لنظريات المؤامرة في كل شيء، حتى في أقرب المقربين منهم .
إن بيل غيتس في هذه الحالة، ليس في حاجة لشريحة جديدة مع هذه الشريحة ممن يستعملون منصاته لترويج الجهل، كما أن أكبر مؤامرة هي أن يتحدث الجهلة في الأمور التي لا يجوز أن يتحدث فيها إلا أهل الاختصاص مصداقا لقوله تعالى: ((وإذا جاءهم أمر من الأمن والخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم))، وأولوا الأمر في هذه الحالة، هم العلماء والأطباء المتخصصون في علوم الأوبئة والمناعة.
وتبقى هناك مسؤولية تقع على الحكومة ومسؤولية إعلام الحكومة في نشر المعرفة وفي ملء الساحة من خلال جهود تواصلية وتثقيفية، كما يبقى هناك دور الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني التي أوكل لها الدستور دورا أساسيا في تأطير المواطنين، وإذا أسند الأمر لغير أهله فانتظر الساعة، والمقصود هنا ليست الساعة الكونية الكبرى، ولكن الساعة الاجتماعية، أي ارتباك النظام الاجتماعي.
لا ينبغي أن يفهم من هذا الكلام أن صاحبه ضد الاحتجاجات حين تكون حول قضية واضحة ومشروعة ومؤطرة، وحول قضايا حقيقية، وليس قضايا مفتعلة أو مضخمة، إني أقصد الاحتجاجات الجاهلة التي تبنى على تمثلات خاطئة وأساطير وخرافات تتلبس بخطاب العلم، فذلك مظهر من مظاهر قيام الساعة، لكن المسؤولية الكبرى تقع على من أسهموا ويسهمون في إضعاف وسائط التأطير السياسي والاجتماعي والثقافي، وقاموا ويقومون بتجريف الساحة السياسية والاجتماعية من الكفاءات التي يمكن أن تتولى مهمة التأطير، وتلك قضية أخرى أكبر من خطابات ظهرت على هامش الاحتجاج ضد فرض جواز التلقيح.
فما ينبغي أن نعمل عليه، هو فرض جواز الفهم، وجواز العلم، وجواز المواطنة والمسؤولية، وليس فرض جواز التلقيح بطريقة غير قابلة للتطبيق وبطريقة مستفزة لمشاعر المواطنين، وقبل ذلك دون تأسيس قانوني معقول وقدر كاف من الشرح والتواصل..
ما ينبغي العمل عليه، هو الكف عن الإضعاف الممنهج لمؤسسات الوساطة وتجريف الساحة من الإرادات التي تسعى لبناء الوعي والمسؤولية وروح المواطنة الصادقة بالشكل الذي يجعل الدولة في مواجهة مباشرة مع المواطن الذي تؤطره الإشاعة والمواقف المسبقة، ووسائل التواصل الاجتماعي، التي هي معرضة لكل احتمالات التوجيه والاختراق.