الرأي

الرأي | في حضرة الشرق

بقلم: مصطفى قمية

    انتهى تذبذب العلاقات بين الجزائر والمغرب إلى القطيعة. كانت القطيعة في الواقع قائمة، ومع بيان الرئاسة الجزائرية صارت لها صبغة رسمية. صادف الحدث تواجدك في الشرق، وفي الشرق، ربما أكثر من أي مكان آخر في المغرب، تسمع هذا الخبر في الشوارع، والمقاهي، والأسواق، والساحات العمومية، ووسائل النقل، قبل أن تسمع عنه في وسائل الإعلام.

يخيم الخبر على كل مكان، لكن لا تشعر بأن له أثرا فعليا في حياة الناس العادية. يبدو أنهم اعتادوا على المد والجزر الذي يطبع منذ مدة طويلة العلاقات بين البلدين. تنسى الأمر، وتسلّم نفسك، عن طواعية، للشوارع، تتركها تقودك حيث شاءت، ولا تأبه إلى أين، فأنت متأكد، لسبب ما، أنها لن تخونك، ولن تخذلك. دليلك أنها لم تفعل ذلك من قبل أبدا.. هي تُقودك وعيناك تلحسان في تلذذ كل شيء دون تمييز، وأنفك يستنشق كل الروائح، ومسام جلدك تتفاعل بحب مع كل ما يحيط بك من ناس وأشياء.

في تيهك الجميل، تستوقفك داخل المدينة القديمة بوجدة، ساحة تحمل اسم بديع الزمان الهمداني، يقودك الطريق ذاته إلى ساحة سيدي عبد الوهاب العريقة، وأنت متأكد، وليس في حوزتك أي دليل، من أنك ستجد عيسى بن هشام وسط حلقة كبيرة من الناس، كبارا وصغارا، رجالا ونساء، جالسا يروي لهم بلهجة أهل الشرق الجميلة، مغامرات أبو الفتح الإسكندري، وهم يتابعون أعاجيبه وحيله وألاعيبه وأفواههم مشرعة على آخرها دهشة وتعجبا، وإلى جواره يوجد الحارث بن همام يحكي حياة أبو زيد السروجي، والتي لا تعوزها أبدا الإثارة والتشويق. عندما تصل أخيرا إلى الساحة عبر باب سيدي عبد الوهاب، تفاجأ بأن عيسى بن هشام والحارث بن همام وأمثالهما قد غادرا الساحة منذ زمن بعيد.

لقد فقدت الساحة زخمها الثقافي وباتت عبارة عن سوق مفتوح، وضعها الحالي لا يجعلها تختلف عن ساحة باب بوجلود بفاس، وساحة الهديم بمكناس، وحتى ساحة جامع الفنا بمراكش، التي إذا هي تجرأت يوما ونظرت في مرآة تاريخها، فإنها بكل تأكيد لن تعرف نفسها.. تهرب من الساحة التي باتت بلا روح، وأنت لا تعرف إلى أين، وفي حديقة لالة عائشة، تجد ضالتك.. تحيط نفسك بالأشجار، والخضرة، والطيور المغردة.. تستسلم لهدوء المكان، وسرعان ما يدب فيك، رويدا رويدا، الشعور بالسكينة والاطمئنان.

يسرقك طريق طويل من نفسك ويقودك إلى مسجد فاطمة أم البنين، الذي يقف شامخا إلى جانب كنيسة “سان لويس”، الكنيسة الجميلة التي اتخذت اللقالق من برجيها مكانا ملائما جدا لبناء أعشاشها.. تبيض هناك وتفرخ في كل مرة لقالق جديدة، ولا شيء يزعجها بعد أن دخلت نواقيس الكنيسة منذ مدة عصر الصمت. يستبد بك السؤال: لماذا لا توجد إلى حدود الوقت الراهن مؤسسة عمومية وظيفتها إعادة الاعتبار، وتأهيل وترميم التراث العمراني الديني غير الإسلامي في المغرب على اعتبار أنه يشكل جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية للبلد؟

وفي الساحة التي تحوي رواق الفنون، تسمع نفسك تدندن بصوت مسموع، بأغنية “مانيش منا”، وأمام الركائز التي تقوم عليها خشبة مهرجان “الراي”، يستبد بك الرقص على أنغام “الركادة” على الرغم من أنه لا توجد ثمة موسيقى.. يكفي أنها تُعزف في مكان ما في وجدانك، صوت ما يهمس في أذنك.. ارقص فقط ولا تأبه لأي شيء، ولا لأي أحد.

قد يقول قائل يمر بك إنك مجنون، لكن أي بأس في ذلك، فليقل ما يشاء، وأي ضير في ما سيقوله.. وحدهم المجانين يرقصون، اجعل الرقص نمط حياة ترغب من كل قلبك، وبكل قلبك، أن ترقص إلى حد أن يغمى عليك، حتى وإن لم تكن تتقن الرقصة الشهيرة، لا ريب أبدا في أن زوربا يسكنك، فيك شيء منه، شيء من جنونه.. زوربا هذا ليس من بلاد اليونان وإنما ببساطة من بلاد الشرق، ويرقص “الركادة” غير بعيد من مدينة بركان، توجد منطقة تسمى “عين الركادة”.. ترى ما العلاقة بين الرقصة المعنية والمنطقة المذكورة؟ أنت طبعا لا تملك الجواب، لكن عليك أن تبحث عنه.

وفي مدخل مدينة السعيدية حيث تتقارب الحدود بين المغرب والجزائر، يسري فيك شعور جميل، يخفق له قلبك بشدة، ويرتعش له جلدك، فعلى جانبي الحدود يتقابل مواطنون من البلدين يلوحون بأيديهم، ويحيون بعضهم البعض بحرارة، ويلتقطون صورا و”سيلفيات” حيث ترفرف في الخلفية الأعلام الوطنية للبلد المجاور، هم مواطنون لا يأبهون للسياسة وتفاصيلها التي يتخذها الشيطان مأوى له.. إنهم يعبرون بأنفسهم عن أنفسهم بعيدا عن كل الحسابات.. إنهم ينتصرون للحياة والحب والسلام، وتعبيرهم هذا رائع حقا في بساطته وعفويته وعمقه الإنساني النبيل.

إذا كانت البندقية قد حالت دون لمّ الشمل بين محمود درويش وريتا، والصراعات العائلية بين روميو وجولييت، والوفاء للملك بين تريستان وايزولد، والثقافة التي تمنع الشاعر الذي يقول الشعر في حبيبته من أن تكون له بين المجنون وليلى، والعداء بين أيت إبراهيم وأيت يعزو بين موحى وحادة، إيسلي وتسليت، فإن انفصام العلاقة بين الأطلس والجزائر قد أنهت حلم الوصال بين نعمان وجواهر. من الواضح أن السياسة تكره الحب، بيد أنها – وإن كانت قادرة على أن تقهقره -فهي تعجز كل العجز على قتله.. وفي نهاية المطاف، يموت الساسة ويخلد المحبون.

على شاطئ المدينة الجميلة، السعيدية، يقف مواطنون على مشارف المنطقة العسكرية يراقبون ما يجري في مدينة بورساي، المدينة الجزائرية الساحلية الصغيرة على الحدود. تجد نفسك تنظر مع الناظرين، وتنتظر مع المنتظرين، ولا تعرف إلى ماذا تنظر ولا ماذا تنتظر، علما أنه ليس ثمة أي شيء غير مألوف يمكن النظر إليه أو انتظاره. في النهاية، تُولي وجهك، بل وكل كيانك أيضا، شطر البحر الذي تشعر به يود أن يعانقك بشغف، وأنت متأكد أن “غودو” لن يأتي على أي حال، لذلك تنصح نفسك بألا تضيع حياتك هدرا في انتظاره، وأن تستغل الفرصة، هنا والآن، وتبادل البحر عناقا بعناق أشد شغفا.

مدينة السعيدية تملك من السحر ما يجعلها قادرة في لحظات على أن تنتشلك من كوابيسك وأحلامك على حد سواء، وأن تغرقك فيها حبا وهياما، هي “اللؤلؤة الزرقاء” للبحر الأبيض المتوسط، هكذا تُلقب، ولعل ما ينقص من روعة تلك اللؤلؤة، ذلك التفاوت الهائل في تطورها على غرار كل المدن الساحلية، بين شريطها الساحلي الطويل الممتد إلى مدينة “راس الما” الرائعة والهادئة، ذات الجزر الصغيرة الثلاث المحتلة، الجزر الجعفرية، مرورا بالمنطقة السياحية، وبين ضواحيها التي تعاني الفقر والبؤس، يشعرك ذلك بالحزن، لكن سرعان ما تهب رياح منعشة، فتحس بمشاعر جديدة تولد داخلك، وتصير أرضى وأسعد.. تلك هي رياح جبال الريف التي تلوح قممها في الأفق، وأكيد أن جبال الريف تجربة أخرى خاصة وفريدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى