الرأي

الرأي | من المسؤول عن الفوضى اللغوية في المغرب ؟

بقلم: فؤاد بوعلي

    بنبرة حزينة وتساؤلات مغلفة بالألم، تحدث الدكتور والمناضل والمعجمي عبد الغني أبو العزم، في حوار له مع يومية “المساء”، عن أكاديمية محمد السادس للغة العربية، التي أقبرت في صراع السلطة ضد اللغة الوطنية.. فمن خلال استرجاع بدايات البناء وأحلام التأسيس، يكرر أبو العزم الأسئلة التي ظلت معلقة منذ القرار الملكي القاضي بإحداث أكاديمية للغة العربية، تنفيذا للمادة 113 من الميثاق الوطني للتربية والتكوين وصدور الظهير المؤسس في سنة 2003، والتي تشغل بال الباحثين والدارسين من نحو: من المسؤول عن تعطيل المشروع؟ وما الذي يمنع من تأسيسها؟ داعيا أصحاب القرار إلى الوضوح والشجاعة في الإعلان عن الموقف من الأكاديمية. والواقع أن السؤال الحقيقي وراء ركام الأسئلة الفرعية هو: لم تعاد السلطة في المغرب اللغة العربية؟

كثيرة هي القراءات التي تقدم حول علاقة الدولة باللغة العربية، وتتحول مع مرور الوقت إلى أسئلة استنكارية معلقة، لكن الزمن كفيل بتقديم الأجوبة الحقيقية من التراجع عن التعريب ومسار اغتيال المدرسة العمومية، هي البداية، بل معالم ذلك كانت بادية وإن كان يلفها الغموض.

فبالرغم من اجترار الحديث في العديد من المنتديات والندوات عن أكاديمية اللغة العربية كما جرى في ندوة المجلس الأعلى للتعليم، شهر أكتوبر 2009، حول موضوع “تدريس اللغات وتعلمها في منظومات التربية والتكوين”، حيث دعت إلى “تفعيل أكاديمية محمد السادس للغة العربية، لتنهض بإعداد الخطط الاستراتيجية وبرامج العمل لتجديد اللغة العربية وتأهيلها وتطوير سبل تدريسها والتحكم في كفاياتها ووظائفها”، ونص الدستور الجديد / القديم على أن الدولة تعمل على حماية العربية باعتبارها لغة رسمية وتطويرها وتنمية استعمالها، وأشار حين حديثه عن “مجلس وطني للغات والثقافة المغربية”، الذي حددت مهمته في “حماية وتنمية اللغات العربية والأمازيغية، ومختلف التعبيرات الثقافية المغربية”، إلى أنه “يضم كل المؤسسات المعنية بهذه المجالات”، بقيت الأكاديمية غائبة عن الأجرأة.

يخطئ من يجمل حل كل مشاكل اللغة العربية بالمغرب في إنشاء الأكاديمية، أو أي مؤسسة أخرى، لأن المسألة هي أكبر من مؤسسة بحثية، لكن وجود هذا الجهاز، إن توفرت له الإمكانيات ودعم السلطات، سيساعد لا محالة في تنزيل النصوص القانونية الداعية إلى حماية اللغة العربية، ويوفر فضاء مؤسساتيا للباحثين بدل الاشتغال في مخابر ووحدات وشعب منعزلة بشكل جزري، ولعل تنزيلها الواقعي، إن تحقق، سيبرهن على تغيير في سياسة الدولة يواكب جو التغيير الدستوري، لكن الأكاديمية التي يفترض أن تكون قد عرفت النور في موسم 2001-2002 كما نص على ذلك ميثاق التربية والتكوين، ما زالت متعثرة في دواليب أصحاب القرار، مما يعني أن النص الذي احتفى به أصحاب العربية قد كانت فلتة من فلتات الزمن المغربي سرعان ما تم التراجع عنه عمليا، مثله في ذلك مثل العديد من النصوص القانونية التي ولدت في جو الحلم الديمقراطي ووئدت لتشهد على ديمومة:

أولا: غياب إرادة سياسية لمعالجة الفوضى اللغوية التي يعيشها المغاربة. فلو تأملنا المشهد اللغوي بالمغرب، لوجدناه مطبوعا بالتباسات متعددة المستويات: “في العلاقات بين العربية والأمازيغية، والتعارض بين لغة الحياة اليومية واللغة الرسمية المستعملة في المدرسة والجامعة والإدارة، والتعارض بين لغة النخبة ولغة عامة السكان”.. فكانت النتيجة الطبيعية هي الفوضى اللغوية التي تسم المشهد عموما وعدم تحديد المجالات الوظيفية لكل لغة من اللغات الوطنية أو الأجنبية، مما يؤثر لا محالة على الاكتساب المعرفي للمغاربة وقدرتهم على الإنتاج العلمي، والسبب الرئيسي هو اعتبار الشأن اللغوي عند الفاعل السياسي شأنا عرضيا وفق تدبيره للشأن العام بمنطق الحاجات الآنية والتوازنات الاجتماعية والعلاقات الخارجية، أي أن القضايا الهوياتية التي تضمن للمجتمع الانسجام وللدولة الاستمرار، توجد في أدنى سلم الاهتمامات.

ثانيا: على الرغم من استبعادنا الدائم لمنطق المؤامرة في تفسير الوقائع، فإن مسار الأحداث يثبت أن العربية تعاني هجمة شرسة على كل المستويات. فقد قاد دعاة التدريج حربا على العربية باعتبارها في منطقهم “عربية مكتوبة” مع ما صاحب ذلك من تنسيق مع بعض الوزراء الذين حضروا ندواتهم أو أبناء بعض الوزراء الذين يقودون مراكز بحثية، كما شهدت الساحة الإعلامية مواجهة أخرى تتمثل في الترخيص لمجموعة من المنابر التي تستعمل العامية كليا أو بموازاة اللغة الأجنبية، وهجوما منظما من بعض المحسوبين على التيار الأمازيغي الذين رأوا في العربية “لغة استعمار”، لذا يحق لنا الحديث عن “حرب منظمة” على العربية، قد تختلف أجندات المحاربين، لكنها تتفق في الغاية.

ثالثا: منذ أن نشر الجنرال ليوطي دوريته الشهيرة سنة 1921م، والتي قال فيها “إن العربية عامل من عوامل نشر الإسلام، لأن هذه اللغة يتم تعلمها بواسطة القرآن”، والفرنسية قد عملت، باعتبارها لغة القوة، على تقزيم دور العربية في المجالات العامة بالمغرب، ولم يتوقف الصراع على الجانب التعليمي أو الإداري، بل انتقل إلى صناعة النخبة الفكرية والأدبية والسياسية المرتبطة إيديولوجيا وقيميا بالمنظومة الفرنكفونية، بمعنى أن الصراع ضد العربية لم يكن يقصد به الآلية التواصلية، بل المراد هو تقديم منظومة قيمية بديلة، لذا ستجد أن الذين تصدوا للحرب على العربية في المغرب هم أنفسهم سدنة معبد التغريب والفرنكفونية والعلاقات مع واشنطن وباريس، والانتماء البديل والشذوذ وكل القيم الغريبة عن هوية المغاربة، ولهؤلاء وجود قوي في دواليب السلطة وتسيير الشأن العام واتخاذ القرارات المصيرية، لذا لن يفاجئك رموز الأحزاب السلطوية حين يقتاتون من النقاش الهوياتي ويشعلون أواره في حربهم على قيم المغرب اللغوية وانتمائه الإسلامي.

حين نستحضر هذه العناصر الثلاثة، سنصل إلى خلاصة مفادها أن الدولة بإدارتها وإرادة أصحاب القرار فيها، يرفضون العربية ويعملون على محاصرتها بكل الوسائل وبافتعال صراعات هوياتية قد تشغل الفاعلين عن جوهر الأزمة، لذا فأجرأة أكاديمية اللغة العربية، وإن كانت لن تفيد كثيرا في مسار الحماية القانونية والتداول الاستعمالي للعربية، فإنها ستعني أن الدولة قد غيرت خيارها. هذا ما نتمناه حتى ينقذنا من مسار عقد من الأوهام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى