الرأي

الرأي | نماذج لظاهرة الاحتجاج بالإضراب عن الطعام

بقلم: عبد الرحيم العلام

    من غير المعلوم ما إذا كان العالم القديم قد عرف الاحتجاج السياسي عن طريق الإضراب عن الطعام، كما لم يُعلم ما إذا كان هذا السلوك قد عرفته الأمم ما قبل الحداثة السياسية، لكن ما أضحى معروفا هو أن الإضراب عن الطعام من إبداع بعض الأمم المعاصرة، وذلك كون الإضراب عن الطعام هو أسلوب احتجاجي من أجل رفع ظلم أو إحقاق حق، حيث يمتنع المضرب عن الأكل، لكنه يحتفظ بشرب الماء والملح، ويكون الإضراب إما لفترة محدودة (أقل من شهر) أو غير محدودة، إذ يقرنه المضرب بتحقيق مطالبه، وإلا فإنه يستمر في إضرابه إلى أن تُقبض روحه.

لم يعرف الإضراب عن الطعام كنوع من الاحتجاج السياسي بداية، بل لقد ظهر في بعض الدول من أجل أمور جنائية، وتخبرنا الموسوعة الحرة “وكيبيديا”، أن الامتناع عن الأكل استخدم في إيرلندا ما قبل المسيحية، وذلك من خلال امتناع الضحية عن الأكل أمام منزل الجاني، لإشعاره بعار ترك إنسان جائع أمام بيته، للضغط عليه من أجل الاعتذار أو رد الديون وإحقاق العدل، والأمر نفسه ساد في الهند القديمة قبل أن يتم إلغاؤه في الهند المعاصرة.

غير أن فعل الإضراب عن الطعام سيعرف تحولا مهما، وسينتقل من الأفعال الفردية التقليدية إلى فضاء الاحتجاج السياسي، وذلك بدخول عالم الاستعمار ووقوع الأسرى والسجناء السياسيين، وكانت المدرسة الهندية المعاصرة قد أبدعت في صيغ الإضراب عن الطعام من أجل تحقيق مكاسب سياسية ضد الاحتلال البريطاني للبلد، إذ اشتهر داعية اللاعنف، المهاتما غاندي، بأنه كان من أوائل الذين انتهجوا أسلوب الامتناع عن الأكل من أجل إحراج البريطانيين الذين سجنوه لفترات متتالية لصده عن رفع مطلب استقلال بلاده عن بريطانيا، وذلك لاقتناع غاندي ورفاقه بأن هذه الوسيلة تقع ضمن السبل اللاعُنفية لمقاومة الاحتلال من خلال إحراجه أمام الرأي العام.

وبالفعل، لقد كثرت الإضرابات عن الطعام التي كان يباشرها أعضاء المقاومة الهندية الذين تم سجنهم، ومنهم من توفي جراء إضرابه الذي كان يستمر لمدة تتجاوز المائة يوم، لكن هذه الإضرابات المتتالية أحرجت الحكومة البريطانية ودفعتها إلى الاستجابة لمطالب المضربين عن الطعام الذين ذاع صيتهم بين أبناء شعبهم (تعرض الموسوعة الحرة أسماء العديد من هؤلاء).

لم يقتصر الاحتجاج السياسي عبر الإضراب عن الطعام على توجه سياسي أو إيديولوجي محدد، بل لقد شمل كل التوجهات، وتم خوضه ضد أنظمة سياسية مختلفة الإيديولوجيات، فلقد واجه النظام السياسي اليساري في كوبا العديد من محطات الإضراب السياسي عن الطعام، وتخلد الموسوعة الحرة مجموعة من الأسماء التي خاضت إضرابات عن الطعام من أجل نيل بعض الحقوق السياسية. ومن أشهر الكوبيين المضربين عن الطعام، الشاعر بيدرو لويس بوايتيل، الذي عاش من دون طعام لمدة 53 يوما، توفي على إثرها في سنة 1972، وقد روى أحداث أيامه الأخيرة، صديقه المقرب، الشاعر أرماندو فالداريس، وحديثا، خاض العديد من النشطاء الكوبيين إضرابات متفرقة من أجل رفع الرقابة عن مواقع الأنترنيت، أو تحسين ظروف السجناء وغيرها من القضايا.

وفي الدول الإسلامية، خاض مجموعة من السجناء السياسيين في تركيا إضرابات طويلة عن الطعام تعددت أسبابها وتنوعت هوية منفذيها، فنتيجة للانقلابات العسكرية المتتالية، ازداد منسوب القمع الموجه ضد مجموعة من الحركات السياسية، وتم اعتقال النشطاء في ظروف غير إنسانية، الأمر الذي دفع هؤلاء إلى سلك الإضراب عن الطعام من أجل نيل حقوقهم وإحراج النظام السياسي، إذ تم تسجيل أول إضراب في تاريخ تركيا سنة 1984 احتجاجا على أساليب التعذيب والمعاملة الوحشية التي يتلقاها السجناء السياسيون، وقد أودى هذا الإضراب بحياة أربعة من اليساريين الثوريين (الموسوعة الحرة).

ولم يقتصر الإضراب عن الطعام على السجناء، وإنما هناك العديد من الإضرابات التي خيضت من خارج السجون من أجل المطالبة بتحسين الأوضاع السياسية والمعيشية، نموذج ذلك ما عرفته تونس في 18 أكتوبر 2005، عندما أقدم أعضاء مجموعة من الهيئات السياسية والمدنية من مختلف التوجهات (يساريون، ليبراليون، إسلاميون…) على خوض “إضراب الجوع” داخل أحد المقرات السياسية، الأمر الذي لقي تجاوبا لافتا، محليا ودوليا، ومن الذين شاركوا في الإضراب وزراء وبرلمانيون في تونس ما بعد الثورة، من قبيل سمير ديلو عن حركة النهضة، وأحمد نجيب الشابي، الأمين العام للحزب الديمقراطي التقدمي.

وتبقى أهم وأكبر موجات الإضراب عن الطعام وأكثرها شهرة وتفاعلا، تلك التي خاضها السجناء الفلسطينيون في سجون إسرائيل عام 2012، في إطار ما أطلق عليه معركة “الأمعاء الخاوية”، وقبل هذا الإضراب، خاض السجناء الفلسطينيون في معتقلات الاحتلال العديد من الإضرابات، ابتدأت بإضراب سجن “الرملة” سنة 1969، وإضراب معتقل “كفار يونا” (1969)، وإضراب السجينات الفلسطينيات في سجن “نفي ترستا” (1970)، علاوة على العديد من الإضرابات التي توجت بالإضراب الجماعي الذي خاضه أكثر من 1800 سجين فلسطيني احتجاجا على الأوضاع المزرية التي قامت بها إسرائيل بعد وقوع الجندي شاليط في الأسر، وانتهت هذه المعركة بتوقيع اتفاق بين السجناء وإدارة السجون الإسرائيلية برعاية مصرية، وخلال هذه المعركة السياسية، حطمت كل الأرقام القياسية لمدد الإضراب عن الطعام في التاريخ، حيث اشتهر المعتقل سامر العيساوي، بأنه خاض أكبر مدة من الإضراب عن الطعام تجاوزت 9 أشهر، انتهت بإطلاق سراحه في إطار صفقة تبادل.

ويسجل في هذه الفترة أن إسرائيل حاولت أن تمرر قانونا يسمح بالإطعام القسري للسجناء وإجبارهم على إنهاء إضرابهم، وهنا تدخلت العديد من منظمات حقوق الإنسان من أجل ثنيها عن تصرفها، حيث رفض الخبير الأممي المكلف من قبل مجلس حقوق الإنسان ذلك، قائلا: “إن عملية الإطعام القسري والعلاج الطبي رغما عن السجناء هي عملية قاسية وغير إنسانية، ومن غير المقبول إجبار الشخص أو استخدام القوة لتغذيته أو غير ذلك من وسائل الإكراه النفسي والبدني ضد الأفراد الذين اختاروا الإضراب عن الطعام احتجاجا على احتجازهم دون تهمة وفي ظروف احتجاز ومعاملة قاسية”.

وأكدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر معارضتها للإطعام القسري، وشددت على ضرورة احترام خيارات المحتجزين والحفاظ على كرامتهم الإنسانية، بناء على اتفاقي مالطا وطوكيو المنقحين في سنة 2006.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى