الرأي | بناء الإنسان والبعد الثقافي

بقلم: بنعيسى يوسفي
تعمل الدول العربية، الغارقة في وحل الأزمات، جاهدة على تأهيل اقتصاداتها، وجلب الاستثمارات وضبط حقلها الديني وتدشين مشاريع اجتماعية هنا وهناك، ولا تخلف مواعيد استحقاقاتها السياسية كالانتخابات الرئاسية أو البرلمانية، في أفق التأسيس لأنظمة ديمقراطية حقيقية، التي تبقى المطمح الرئيسي والأول في المجتمعات العربية دون استثناء، فبصرف النظر عما هو سياسي، يمكن القول أن جل الدول العربية تعيش دينامية حقيقية في قطاعات كثيرة مختلفة لا تخطئها العين، مع بعض الاستثناءات القليلة، تلك التي لا زالت الأوضاع فيها غير مستقرة والأمن فيها غير مستتب، لا أحد يمكن أن يشك في أن هذه الدينامية لها أدوار وانعكاسات على المستوى المعيشي للمواطن العربي رغم أنه يستحق الأفضل بناء على الثروات الطبيعية التي تنضح بها أرضه المعطاء، لكن ثمة معيقات تجعله لا يحظى بحقوقه كاملة، لكن رغم كل ذلك، ورغم كل المجهودات التي قد تبذلها هذه الدول في سبيل الرقي بالمستوى الاجتماعي للمواطن العربي، إلا أنه يمكن أن يذهب كل ذلك سدى وتذهب كل تلك المجهودات أدراج الرياح ما دامت هذه الدول لم تقم أولا ببناء هذا الإنسان الذي تشتغل من أجله، فليس بالضرورة أن تنخرط أي دولة في مشاريع عملاقة وتنفق في سبيل ذلك أموالا باهظة، ويصبح المنظر العام للدولة راقيا، ونقول أنها تقدمت والتحقت بالدول المتقدمة والمتحضرة، لا يمكن أن نقول ذلك إلا إذا استطاعت بناء الإنسان والعمل على جعله متحضرا، وهذا ليس بالأمر الهين، فحتى يعي الإنسان كل ما يحيط به ويعرف أهميته والمحافظة عليه، لا مندوحة من توافر مستوى كبير من الوعي والقدرة على التقدير والتفاعل الإيجابي مع المحيط الذي يعيش فيه، وتغيير الكثير من السلوكات والممارسات التي تضر بهذا المحيط أولا وبالآخر المختلف عنه الذي يتقاسم معه البيئة الاجتماعية ثانيا، واحترام المنشآت الاجتماعية المحيطة به بمختلف أشكالها، ولكي يتم الوصول إلى هذا المستوى من التحضر الذي يجعله يتعامل مع أي شيء في المجتمع بمنتهى المسؤولية والاحترام، فإن الأمر يقتضي الاهتمام بالثقافة ورد الاعتبار للشأن الثقافي في هذه المجتمعات التي نتحدث عنها.
فمهما كانت الإمكانيات التي تسخرها أي دولة في تطوير المجتمع اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وبنية تحتية وعمران وما إلى ذلك، ويمكن أن تعيش هذه المجتمعات رفاهية وبحبوحة من العيش، لكن تغييب البعد الثقافي في كل ذلك من دون شك سيقف حائلا أمام تحقيق المجتمع المتحضر والحديث الذي نريد، ذلك أن هذا البعد هو الذي يشكل الخيط الناظم والرفيع الذي يربط كل تلك المكونات أو تلك المجالات، بل يمكن اعتباره تلك اللحمة التي تجعلها متماسكة وذات منفعة ومردودية، لذلك يبدو أنه لا مكان لنمو مجتمع معين أو تطوره أو تحديثه إلا باستحضار وبقوة البعد الثقافي أثناء صياغة السياسات والاستراتيجيات الكبرى للدولة ومراعاة تطوير مكانة الثقافة فيه، وليس هذا وحسب، بل هناك من يعتبر الثقافة والإنتاج الثقافي أحد مقومات وأحد مظاهر نمو الحياة في المجتمع، هذا إن لم نقل أنها هي الخاصية الأبرز والأكثر تميزا للمجتمعات وكل حضارة، حتى صارت الثقافة في العديد من استعمالاتها تقارب المعنى الشامل للحضارة، فتثقيف الإنسان هو الوسيلة الوحيدة التي تجعل منه فردا مسؤولا، والإحساس بالمسؤولية هي أولى لبنات التحضر، وهذا الإحساس لا يمكن أن يتأتى إلا إذا كان هذا الإنسان متشبعا بالقيم الثقافية النبيلة، سواء التي أنتجها العقل البشري على امتداد العصور والأزمنة، أو حتى تلك التي جاء بها ديننا الحنيف، ومن هنا ينمو الضمير البشري ويرتقي، ونحصل على إنسان ناضج، وعليه، تنقرض الكثير من السلوكات المشينة المنتشرة في المجتمع والتي تعطي الانطباع بأن هذا المجتمع بعيد كل البعد عن الحضارة والتحضر، وبالتالي، تعيق التنمية والتقدم، ثم أيضا بتثقيف هذا الإنسان، بأن يفهم ويقدر ذاته والآخرين، ويستوعب كل ما يحيط به، ويعرف حقوقه وواجباته، وحدود الخاص والعام وما إلى ذلك، ولما كانت كل هذه المبادئ والمقومات غائبة في السياسة الثقافية وحتى التعليمية في المجتمعات العربية، فها هي النتائج واضحة: اختلالات بالجملة في المجتمع على المستوى الاجتماعي والسلوكي والنفسي، وعدم تصالح الفرد مع واقعه، ومعرفة ماذا يريد، وانسلاخ خطير عن الهوية، وازدواجية مقيتة في الشخصية، وقس على ذلك من الأمراض والعلل الاجتماعية التي لا تعد ولا تحصى، والتي مصدرها هذه الهشاشة الثقافية إذا لم نقل الفراغ الثقافي المهول الذي تعيشه هذه المجتمعات، ففي غياب تصور ثقافي لدى الفرد، يصعب عليه تحديد أفق مستقبله، ويبقى عرضة للتيه والضياع، وهذا ما نلمسه وبحدة في جل المجتمعات العربية في الوقت الراهن .
فمادام الإشكال قائما، فالمطلوب هو البحث عن آليات أو خارطة طريق ثقافية، يمكن سلكها حتى نستطيع بناء إنسان عربي بناء حضاريا، وبالتالي، يصبح عضوا فاعلا في مجتمعه مساعدا في بنائه وليس في هدمه، وفي هذا الصدد، يبرز المفكر المغربي محمد وقيدي، خريطة طريق يمكن أن تجنبنا خطر هذه الإشكالية وتداعياتها، خريطة تتحمل فيها الدولة مسؤولية كبيرة باعتبارها المحددة رقم واحد للاستراتيجية الثقافية والعلمية، ونفس المقدار من المسؤولية تتحمله الفئات المثقفة، التي لا بد أن تلعب دورا مكملا لدور الدولة في هذا السياق، ويقول: “إننا مع إيماننا بأن الدولة يمكن أن تلعب دورا في استراتيجية ثقافية وعلمية، وفي البحث عن وسائل وسبل إنجاز عناصر هذه الاستراتيجية، نرى أن للفئات المثقفة بدورها دورا مكملا لهذا الدور الأول المطلوب، فوعي السلطة القائمة في المجتمع بأهمية البعد الثقافي، ينبغي أن يكمله وعي الفئات المثقفة بدورها في رفع وتطور المجتمع نحو هذا المسار”.
وإذا كانت مسؤولية الدولة والنخب الثقافية ثابتة في المستوى الثقافي الذي لا يروق أحدا في المجتمعات العربية، الشيء الذي يؤثر سلبا على نوعية وطبيعة الإنسان الذي نريد، الإنسان المتحضر المساهم في بناء الحضارة والمجتمع، فإن مسؤولية هذا الإنسان نفسه في تثقيف نفسه هي الأخرى ثابتة، بمعنى أن يحاول بناء نفسه بنفسه بالمقدار الذي في متناوله واستطاعته، فالمعرفة أصبحت في الوقت الراهن متاحة للجميع، لكن يبدو أن الإنسان العربي زاهد فيها، ومشغول ربما بأمور أخرى لا تضيف أي شيء لرصيده المعرفي والفكري، فإذا لم تصبح الثقافة شأنا فرديا وأن يهتم بها هذا الفرد من تلقاء نفسه، وأن تكون جزء لا يتجزأ من برنامجه اليومي، فمهما كانت درجة الاستراتيجيات والخطط الثقافية التي قد تسلكها هذه الدولة، فلن تفي بالغرض بالمطلق،
ففي بعض الأحيان قد تبذل الدولة ومعها الطبقات المثقفة مجهودات من أجل تأهيل الحقل الثقافي، وجعله متاحا للجميع، وتلفي الفرد لا يستجيب لكل ذلك، ويعتبره شيئا غير ذي أهمية، هذا التباعد وعدم الاهتمام ربما يعود إلى أن هذا المجتمع أو هذا الفرد غير مقتنع بمشروع الدولة الثقافي، لأنه لا يستجيب بالشكل الكافي لاهتماماته وانشغالاته، أو لأن علاقته بالثقافة ليست على أحسن حال.. وانتهى الأمر.