الرأي | كيف جعل إبراهيم ناجي “أزهار الشر” أزهار خير.. (1)
ربما من كتب له دراسة الآداب العصرية في ثانويات المغرب في ستينات القرن الماضي، استفاد من عدة مناهج في التربية والتعليم، ذلك أن هذا الجيل نشأ في مدرسة عمومية بعد الاستقلال مباشرة، وكانت مسألة التعليم مسألة وطنية تتداخل فيها المسؤولية من أجل إعداد شباب مسؤول بين الأسرة والمؤسسة التعليمية بعدما أدرك الجميع أن الذين بسطوا الحماية على الأوطان والمستعمرات إنما بسطوها بالعلم والمعرفة التي بدونها لا تستقيم تنمية ولا ديمقراطية.
كما أن الأجانب الذين كانوا يدرسون كانوا من تلك الزمرة التي تعاقدت في إطار التعاون الفرنسي المغربي على إرساء معالم التعليم العمومي، ولا يمكن أن يختلف اثنان عن أن هؤلاء المدرسين غالبيتهم كانوا يحبون بلادنا، فمنهم من كان من أبناء من عاشوا فيها طيلة أربعة عقود ولما كتب عليهم مغادرتها، رجعوا في إطار عقدة تعليمية من أجل إحياء ذكريات طفولتهم بعدما غادروا البلاد عقب الاستقلال كما كانوا يحكون لنا ذلك بكل اعتزاز، لذلك كانوا مخلصين أكثر من غيرهم في السهر على تكوين جيل يستلهم تربيته من الأسس الإسلامية المتينة ومناهج تعليم عصرية، وتقاليد ضاربة في القدم، ومن مناضلين في السياسة أرادوا أن يكون التعليم قاطرة للتقدم، وإرادة ملكية وسياسية من أجل مواكبة هذا التعليم، وذلك هو حال الوطنيين من الأحزاب السياسية التي كان همها الوحيد تأطير الشعوب ومحاربة الأمية والنهوض بالمرأة، إلى أن تخرج جيل السبعينات مكتمل القوى والمدارك لتحمل مسؤولية الخروج بالبلاد من براثين الجهل والتخلف إلى التنمية والتقدم.
وقد كتب لجيلنا، وربما كنا محظوظين، أن نتعلم على يد هذه النخبة من الأساتذة المغاربة المفعمين بالوطنية حتى النخاع، وبهؤلاء المتعاقدين الأجانب الذين كانت تربط غالبيتهم ببلادنا علاقة حب وإعجاب وطفولة على ترابها.
كما ساهمت الحركات القومية العربية بطريقة غير مباشرة في التحاق مجموعة من الأساتذة الكبار في الجامعات ببلادنا بعدما ضاقت بهم أجواء الحرية والتسامح في بلدانهم، وقد استفاد جيلنا خير استفادة من اختلاف مشارب هذه الثقافات بين الشرق والغرب، فكان الأستاذ روباجليا الفرنسي، الرجل المسن الذي لم ينهض من كرسيه ويكتب بالطباشير ولو جملة واحدة في ثانوية ابن تومرت لمدة سنة الباكالوريا، بل يكتفي بالمحاضرة أسوة بأساتذة الكلية، ويطلب من التلاميذ في كل حصة تلخيص ما جاء في الحصة الماضية، ويطلب منا تسجيل الملاحظات حول كبار الأدباء والشعراء والفلاسفة، وأنّا لنا ذلك؟ ويكون الامتحان باستظهار ما فهمه كل تلميذ من تلك النظريات المعقدة والشروح المستفيضة، وتكوين ملكات البحث عند كل واحد من الطلبة الذي لا يبقى قابعا في منظومة المقررات ليذهب إلى الخزانة البلدية أو خزانة موسى بن نصير الفرنسية كما كنا نسميها، والتي كانت بجانب ثانوية ابن تومرت وتسمى مكتبة “les Œuvres Laïques”،
وكانت موعدا للقاء المحبين الصغار من أجل تبادل المقررات والكتب، أما حصص مادة الآداب العربية، فكان يقوم بها الأستاذ العلمي مبارك، خريج جامعة فاس والرياضي المشهور بالكراطي، حيث كان بعض الطلبة المزعجين يطلبون السلامة قبل القيام بأي حركة أمامه، وكان بسحنته السمراء ونظارتيه وصوته الجهوري وقامته الطويلة وتعصبه للعقاد، يحاضر كذلك محاضرة في الآداب العربية شبيهة بمحاضرة الأستاذ روباجليا، لا خلاف بينهما إلا في كلب الأستاذ روباجليا الذي يتركه في مدخل الثانوية باسطا ذراعيه، والذي لا يتحرك إلا بعد خروجه من الحصة..