الرأي | التحول الرقمي في المغرب أمام التحديات الإفريقية
بقلم: ذ. كمال كحلي
يمثل التطور الرقمي في المغرب، أحد الرافعات الرئيسية للسياسة العامة، مؤطرا برؤية استشرافية متعددة الأبعاد، منها استثمار التكنولوجيا كركيزة أساسية للتنمية والاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي وتشريع مرن ومواكب للتطورات تحت قيادة الملك محمد السادس، الذي دعا في خطاب العرش 2008، الحكومة، إلى اعتماد استراتيجية جديدة لتنمية تكنولوجيا العصر، واستغلال فرص العولمة لتقوية الاقتصاد الوطني وتعزيز دوره في الاقتصاد العالمي للمعرفة، وفي خطابه في افتتاح الدورة الأولى للبرلمان 2016، دعا إلى تعميم الإدارة الإلكترونية: ((يتعين تعميم الإدارة الإلكترونية بطريقة مندمجة تتيح الولوج المشترك للمعلومات بين مختلف القطاعات والمرافق، فتوظيف التكنولوجيات الحديثة يساهم في تسهيل حصول المواطن على الخدمات، في أقرب الآجال، دون الحاجة إلى كثرة التنقل والاحتكاك بالإدارة، الذي يعد السبب الرئيسي لانتشار ظاهرة الرشوة، واستغلال النفوذ))، وبمناسبة انعقاد القمة الاستثنائية للاتحاد الإفريقي بكيغالي سنة 2018 حول منطقة التبادل الحر القارية الإفريقية ((إن إفريقيا ماضية اليوم في طريقها لتصبح مختبرا للتكنولوجيا الرقمية، فالتقنية الرقمية ما فتئت تغير وجه قارتنا، من خلال الانخراط الفعلي لشبابها المسلح بروح الإبداع والإقدام)).
وقد أكد النموذج التنموي الجديد أن الرقميات رافعة حقيقية للتغيير والتنمية، مما يستدعي اهتماما على أعلى مستويات الدولة، حيث أوصت لجنة النموذج التنموي بضرورة مواجهة عدد من التحديات المتداخلة والمتكاملة، منها اعتماد استراتيجية شاملة للتحول الرقمي، مع مطلب تأهيل البنيات التحتية الرقمية من خلال تحسين الصبيب العالي والثابت وتوسيع نطاق التغطية، إلى جانب تطوير منصات رقمية موحدة لكل الخدمات المقدمة للمواطنين والشركات، كما يتطلب هذا التحول إعداد كفاءات بشرية قادرة على تنفيذه، كما أوصت اللجنة باستكمال الإطار القانوني لضمان الثقة الرقمية والسيادة الوطنية.
ويجسد إحداث وزارة منتدبة مكلفة بالانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة، التزام المغرب بتحقيق تحول رقمي مؤسساتي، حيث تضطلع بإعداد الاستراتيجية الوطنية للتنمية الرقمية، صياغة التشريعات المتعلقة بالرقمنة وتعزيز الثقة الرقمية وحماية البيانات، كما تم إحداث “اللجنة الوطنية للتنمية الرقمية” و”وكالة التنمية الرقمية”، بالإضافة إلى “حركة الذكاء الاصطناعي” التي تضطلع بدور محوري في ترسيخ مكانة الدولة كمركز ريادي في إفريقيا في هذا المجال، وقد تعززت هذه المكانة سنة 2023 باعتماد اليونسكو “المركز الدولي للذكاء الاصطناعي” بالمغرب (AI Movement)، التابع لجامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية، كمركز من الفئة الثانية، ليكون الأول من نوعه في إفريقيا.
كما عرف المغرب محطات مؤسسة لمغرب رقمي، بدء بـ: المخطط الخماسي 1999-2003، استراتيجية المغرب الإلكتروني 2005-2010، استراتيجية المغرب الرقمي 2009-2013، مخطط المغرب الرقمي 2020، ومذكرة التوجهات العامة للتنمية الرقمية بالمغرب في أفق 2025، ثم استراتيجية المغرب الرقمي 2030.
ومن جهة أخرى، تشكل “الاستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني 2030″ إطارا شاملا لتعزيز صمود البنية التحتية الرقمية في المغرب وحمايتها من التهديدات السيبرانية المتزايدة، بما ينسجم مع التوجهات الملكية الرامية إلى تحقيق تحول رقمي آمن ومستدام، وتهدف إلى تحسين مستوى حماية نظم المعلومات الحساسة، وتعزيز الثقة الرقمية بين المواطنين والمؤسسات، وتطوير القدرات الوطنية في مواجهة التحديات السيبرانية، مع التركيز على بناء نظام سيبراني متكامل يدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية مع توجه نحو تعزيز الشراكات مع الدول والمنظمات الدولية لتبادل الخبرات وأفضل الممارسات.
تشرف على تنفيذ هذه الاستراتيجية منظومة حكامة متكاملة تشمل اللجنة الاستراتيجية للأمن السيبراني، التي تضطلع بإعداد التوجهات العامة وضمان التنسيق بين الفاعلين، ولجنة إدارة الأزمات السيبرانية، المسؤولة عن التصدي للحوادث الكبرى، والمديرية العامة لأمن نظم المعلومات، التي تعتبر الجهة التنفيذية الرئيسية لضمان الامتثال وتنفيذ السياسات.
إن غنى المغرب الملحوظ في ترسانته القانونية واستراتيجياته الوطنية، إلى جانب بنية تحتية رقمية واعدة، وكفاءات مغربية رائدة قادرة على قيادة التحول الرقمي، وتعزيز موقعه الدولي بسبقه في تبني توصية اليونسكو بشأن الذكاء الاصطناعي، فضلا عن تحقيقه تصنيفات متقدمة عالميا، كاحتلاله المرتبة 35 في مؤشر مراقبة البيانات المفتوحة 2022، والمرتبة 50 في مؤشر الأمن السيبراني العالمي 2022، والمرتبة 88 في مؤشر جاهزية الحكومة للذكاء الاصطناعي 2023.. كلها إنجازات تعكس تقدم المغرب الرقمي، لكنها تتطلب المزيد من الجهود لتسريع تطوير البنية التحتية لسد فجوة التفاوتات وتعزيز الثقافة الرقمية وتقريب الرقمنة من مختلف شرائح المجتمع، عبر إدماج مرن ومتدرج يرفع قدرات المواطنين في المجال الرقمي للاستثمار الرشيد والإبحار الآمن، كما تبرز الحاجة إلى صياغة مدونة موحدة للتشريعات الرقمية تعنى بتنظيم الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية والأمن السيبراني، لتسهم في تعزيز الحكامة والشفافية، ومواكبة التحديات المتزايدة، وتحفيز الابتكارات التكنولوجية، وتنمية الاقتصاد الرقمي، مع ضمان حماية الملكية الفكرية وتعزيز الإنتاجية البشرية ببعدها الأخلاقي، بالإضافة إلى أهمية تطوير نظام اليقظة التقني والتشريعي، واستثمار التعاون الدولي لخلق بيئة رقمية مثمرة تحقق مفهوم “رابح رابح”.. تلك هي الرهانات الأساسية لمواصلة مسار المغرب الرقمي، وسترسخ لا محالة مكانة المغرب كنموذج رائد في إفريقيا وفاعل دولي في مجال الرقمنة والذكاء الاصطناعي.